من مظاهر الجهل الشديد في النقاش والحوار في أمتنا هي استنتاج كلاماً على أمزجتنا، لم يقله الشخص الذي نحاوره. مثلاً، يقول الشخص أن نسبة الأمّيين في الريف المصري كذا وكذا، ثم يردد المذيع بعده ’يعني كل الفلاحين في مصر أميين؟ لا حول ولا قوة إلا بالله‘، وهو إما مذيع جاهل أو أنه يريد أن يضع كلاماً على لسان الضيف لم يقله الضيف؛ أو تجد الجرائد العربية في اليوم التالي منشورة بعنوان مثل ’المسئول الفلاني في الحكومة يفجر تصريحاً بأن الفلاحين أميين!‘ ومثال آخر نراه بكثرة في الإعلام والشارع عامة هو أن يقول الناقد ’هذا فِكر عَالَمَاني، ولا يمتّ أصلاً للأكاديمية بصلة‘، فيكون رد فعل الطرف الآخر على وتيرة ‘وتتهمني أني عَلَمَاني؟! سنترك لحضرتك الأكاديمية والعِلم في كل شيء!‘
شيء فعلاً مخزي؛ شيء يُرثى له ويقطر جهلاً. وبالمناسبة، عندما يقوم مشاهير الإعلام وتقوم الجرائد الكبيرة بمثل هذه الأفعال، فماذا تنتظر من المواطن البسيط الذي يناقشك أو يتحاور معك في قضية ما؟ ما هو وقتها، هذا المذيع المشهور وهذه الجريدة الكبيرة تعتبر بمثابة القدوة في نظر المواطن البسيط، وهو يقلدها! هذه هي الحقيقة. المواطنون البسطاء يبحثون عن أي مثال يقلدونه، لأنهم نشئوا على ذلك؛ بل وهذه هي الطبيعة البشرية الاجتماعية التي يقل جداً من يقاومها؛ إنها فطرة اجتماعية بحتة أن نبحث عن مثال أو قدوة نحتذي بها، كي نشعر بالانتماء والوحدة الروحية مع من حولنا. فإن لم نعرف تفاصيل كافية عن قدوة حقيقية مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فماذا تظن أننا نفعل؟ إننا نبحث عن أي قدوة أو مثال آخر! فإن لم يجد المواطن مثالاً يُحتذى به في الحوار والنقاش وتفسير ما يقوله الطرف الآخر، فماذا سيفعل؟ بالتأكيد سيستخدم أول مثال أمامه في الحوار والنقاش؛ وما هو أول مثال في الحوار والنقاش يمكنك أن تجده في عالم اليوم؟ مذيع على شاشة التليفزيون يفسر ويعيد كلاماً ويناقش ضيفاً ما!
فعندما يكون أسلوب هذا المذيع بهذا الجهل والتخلّف أو بهذا الخبث والتزوير المخزي، فما الذي سيلتقطه المشاهد؟
ما ذكّرني بهذه القضية، بعد سيل من الفيديوهات—على يوتيوب—المنشورة بعناوين مبالِغة أو مُضَلِّلَة جداً ولا علاقة لها بمحتوى الفيديو خلال الشهور الأخيرة، هو فيديو يُنشر هذه الأيام عن استهزاء جمال عبد الناصر ومن حوله بالحجاب وبالثقافة الإسلامية التي تمنع الفن السافر؛ وبالرغم من أني أعي جيداً أن عبد الناصر كان يحارب شريعة الله، ويعذّب الإخوان المسلمين في المعتقلات، وساعد في استوطان إسرائيل بحركة في منتهى الدهاء وهي إرسال يهود مصر إلى إسرائيل تحت ستار إعلامي من ’طرد اليهود من مصر‘ (ويا له من دهاء سياسي إعلامي!)، إلا أن كل هذا لا يعني أن أبالغ أو أكذب في تصريح قام هو به.
كان هذا تعليقي على الفيديو:
عنوان الفيديو مضلل ويضع كلاماً على لسان عبد الناصر هو لم يقله، فللأسف لا أستطيع إعادة النشر، لأن هذا هو نفس أسلوب المعارضة وإعلام الكذب والدعارة السياسية الذي يضع كلاماً وهمياً على ألسنة الرئيس وساسة الأحزاب الإسلامية؛ فلماذا نقبل على خصومنا ما نرفضه على أنفسنا؟ لا لازدواجية المعايير، ونعم للخصومة الشريفة.
وهذا ليس دفاعاً عن عبد الناصر بالتأكيد؛ هذا الرجل كان محارباً لشريعة الله بما لا يدع مجالاً للشك، وعذب الكثير من الإخوان في المعتقلات؛ ولكن كل هذا لا يبرر أن نتبع نفس أسلوب خصومنا في وضع كلام على لسان الغير هو لم يقله. هذه ثقافة جاهلة كاذبة، أرجو من العرب نبذها وتركها، لأنها حقيقة تخلف ثقافي ومستوى متدني في الحوار، أعاني منه شخصياً مع الكثير من الناس ممن يستنتج كلاماً على مزاجه مما أقوله، ثم يقوّلني كلاماً لم أقله. الله يهدينا جميعاً.
—ياسين رُكَّه
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق