كتب جمال عبد الغفار بدوي: ثورة الشيشة
من حقِّ كل ثائرٍ أن يفعل ما يحلو له، لا خلافَ على ذلك، فقد قامت الثورة من أجل الحرية في المقام الأول؛ ولذلك فمن حق مَن يريد أن يتظاهر أن يتظاهر، ومن حق مَن يريد أن يعتصم أن يعتصم، ومن حق من يريد أن يصبح ثائرًا ولا يجد ما يفعله فالطريق معروف: إما أن يذهب إلى ميدان التحرير ويشتم الإخوان، أو يظهر في فضائية أو جورنال وأيضًا لا بد أن يشتم الإخوان، وإذا كان ممن استطاع أن يكوِّن جوالاً من الملايين المملينة بسبب علاقاته السابقة بالمخلوع وأنجاله وأنداله؛ فلا بأس من أن يُضحي بملايين معدودة لتأكيد ثوريته!
ولا يحق لأحدٍ أن يخوِّن أحدًا آخر ما دام هذا الآخر ليس إخوانيًّا أو سلفيًّا أو حتى ممن يرتادون المساجد، ومن حق الجميع أن يهلفط ويردد كالببغاء دون وعي أو تمييز اسطوانات مشروخة صدئة عن عدم زواج الدين بالسياسة وبطلان ذلك تمامًا كبطلان زواج عتريس من فؤادة!
من حق الثائرين أن يطلبوا ممن يختلف معهم أن يشتروا طُرَحًا—في دلالة بذيئة على عدم رجولتهم—في أقذر طرحٍ سياسي للخلاف والاختلاف، ولكن كله مستساغ ما دام قائله والداعي إليه ليس إخوانيًّا سابق التنظيم.
لا تسأل ثائرًا لماذا تمنع مرتادي المساجد من ممارسة السياسة؟ وبأي حق تطالب بهذا؟ وهل كان للثورة أن تنجح هنا أو هناك لولا المساجد وأيام الجمع؟
هل نسيتم جمعة الغضب وجمعة التحدي وجمعة الصمود وجمعة النصر وجمعة التطهير…إلخ؟
لا تسأل ثائرًا هل منع أحد أحدًا من دخول المساجد؟
وماذا يفعل ملايين المصريين في الأحياء والقرى والنجوع الذين لا يجتمعون ولا يرون بعضهم البعض إلا في المساجد؟ هل نطالبهم بغلق أفواههم إذعانًا لمن لا يرتادون المساجد حتى يعم العدل والمساواة؟ هل ضُبط مصري إخواني أو غير إخواني يدعو للسياسة في مسجد من مساجد مصر؟
أتحدى!
إن أحاديث المساجد—لمن لا يعرفها—تخوض في عاقبة الظلم والظالمين وخسران الفساد والمفسدين، كما أنها تدعو إلى فهم الشريعة والمطالبة بتطبيقها والدعوة إليها، فهل من السياسة أن يترك دعاة المساجد الكلام عن الشريعة، توحيدًا للصف الوطني، وحرصًا على مشاعر من لا يرضون بتطبيقها؟
هل منع الإسلاميون أحدًا—ليبراليًّا أو علمانيًّا أو حتى شيوعيًّا ماركسيًّا شديد الماركسية واللينينية—من دخول المساجد؟
إن المساجد مفتوحة أمام جميع المصريين يرتادها المصلون، لا يُسألون عن هوية سياسية أو حزبية أو مذهبية، كما أن ساحات المساجد مفتوحةً لكل مَن أراد أن يوزع منشورًا أو دعاية، وكذلك الساحات أمام المساجد مفتوحة لجميع الباعة، من كل جنس ولون وطعم. إن الهلفطة بموضوع الدين والسياسة حجة البليد الذي لا يعرف كيف يمارس السياسة ويتفاعل مع الجماهير، أو هي دعوى باطلة ممن لا يعرف الأمور على حقيقتها، أو دعوى خبيثة مغرضة ممن لا يحب الشريعة، ولا يريد أن تقوم لها قائمة، مهما حاول أن يخفي دوافعه أو يلبسها ملبس العلم والوقار والحيدة؛ فعلى سبيل المثال لم يدعُ شيخ كصفوت حجازي في يوم من الأيام من منبره في المسجد أو منابره في الفضائيات لمشروع سياسي شخصي سواء هو أو أمثاله ممن عرفتهم الثورة من المشايخ والدعاة، فلما قامت الثورة كانوا في طليعتها، وممن حافظوا عليها من منطلقاتهم الدينية والشرعية؛ فهل علينا اليوم أن نطالبهم بعد الثورة والحرية والكرامة ألا يتحدثوا عن الشريعة أو الإسلام أو غير ذلك من الأمور السياسية، حتى لا نخلط الدين بالسياسة أو الكشري بالمهلبية!!!!!
إن قيمة مشاركتهم في الثورة لم تنبع إلا من معرفة دورهم الحقيقي كدعاة لا يكتفون بالوعظ الميت، ولكنهم كانوا مع الجماهير وقضاياهم اليومية كما تعلموا من إسلامهم ورسولهم الكريم صلى الله عليه وسلم.
لقد كنتم تنتقدون مشايخ السلطان، الذين لم يقولوا لا لمبارك وزبانيته؛ واليوم تريدون أن تصبح مساجد مصر كلها هكذا، نؤكد مرةً ثانيةً وثالثةً ومليونيةً أن المساجد لم تكن ولن تكون مرتعاً للخلاف الحزبي والسياسي والشخصي، ولكنها لا يمكن أن تتخلى عن دورها في تبصير الناس بأمور دينهم وشريعتهم وتحثهم على العمل والإيجابية، سموا ذلك سياسةً، سموه فقهًا، سموه اقتصادًا، لا تعنينا الأسماء ولن تحول بين المساجد ودورها الذي تقوم به منذ ١٤ قرنًا من الزمان، لدرجة جعلت مجنون ليبيا لعنه الله وخسف به وبكتائبه يلغي صلاة الجمعة من مساجد طرابلس.
إن من تعلَّق قلبه بالمساجد يعرف تمامًا ما سبق قوله من استحالة الاعتداء على قدسية المساجد واستغلالها في الدعاية السياسية، فجماهير المسلمين أوعى وأحرص على مساجدهم من أي تيار أو جماعة أو حزب، فلا يمكن بحالٍ من الأحوال أن يخدع هذا الشعب مخادع، تماماً كما لم يستطع مبارك وجيشه من الأمن المركزي والإعلامي أن يقهره ويلغي مقاومته وينسيه الكرامة والحرية.
إن الشعب المصري الذي قام بأعظم ثورة عرفها التاريخ يستطيع التفرقة الفطرية بين الصادقين والكاذبين والمنافقين، ومَن يشك في ذلك فعليه أن يجد لنفسه موضعاً بجانب المخلوع وعمر سليمان ونظيف، الذين كانوا يحتقرون هذا الشعب ويرددون أنه لا يستطيع ممارسة الديمقراطية، فأحياهم الله حتى رأوه وهو يمارس الثورة والخلع والعزل وسجن الطغاة والمفسدين!
وإذا سلمنا جدلاً بصحة مقولة إبعاد السياسة عن المسجد، أفلا يحق لنا أن نطالب بإبعاد المقاهي والأندية والمنتديات والأتيليهات والصالونات…إلخ، عن السياسة؟
إذا قلنا إن هنالك ظلماً بيناً وعدم عدل واضح حين يستخدم البعض المساجد للسياسة، ألا يحق لنا أن نقول إننا إذا سمحنا لمرتادي المساجد والأندية والمقاهي بممارسة السياسة فيها؛ ألا يكون هناك ظلم وغبن لمن لا يرتاد هذه الأماكن؟!!!
ما ذنب من لا يعرف إلا المسجد ولا يجلس على المقاهي من الحرمان من الأحاديث السياسية؟
هذه ليست أحجية وفزورة، ولكنها مسألة غاية في الأهمية بعد أن خرج علينا أحد كبار من يصدعوننا بالحرص على صياغة دستور على مزاج سعادته أو سعادة بقية أفراد عائلته، مستنكرًا مستعجبًا من الشباب الذين روجوا صورته الثورية وهو يشد أنفاسًا ثورية متلاحقة من الشيشة على هامش الثورة التي يحاول مستميتًا أن يتزعمها بالذوق أو بالملايين.
وليس من حق أحد—مهما كان هذا الأحد—أن ينتقد شخصًا ما لتصرف هو من صميم حريته الشخصية.
ولكن ألا يحق للشباب أن يبحث عن مواطن القدوة فيمن يتصدرون للعمل العام وقيادة الشباب الثائر ومحاولة خطف ميدان التحرير والثورة؟
هذا الثائر لم يجد في قاموسه غير البذاءة في مهاجمة من اختلف معه سياسيًّا في أمر يحتمل الاختلاف، طالبه بشراء َطرْحَة، ثم سمح لنفسه أن يقول إن الرأي العام لاينفع ولا يضر—هكذا مرة واحدة—فلماذا يتعجب من الشباب الذي استنكر إدمانه للشيشة؟
إن الثائر أعلن أنه لن يترك الشيشة واستشهد بمحمد علي باشا، وكم هو استشهاد ساذج يثير السخرية من مناضل ثورجي يريد أن يرسم مستقبل مصر حسب مزاجه بعد شد عدة أنفاس ثورية بالتفاح والمشمش، فهل يريد سيادته العودة بنا للوراء، أم أنه يجهل الفرق الزمني وما تم اكتشافه طبيًّا من مضار ومخاطر لم يكن يعرفها الباشا، وحتى لو كان يعرفها فهل الناس تقتدي بمساوئ السابقين أم بحسناتهم؟
ما علينا…ألا يعرف الثائر أن من يتصدى للعمل العام ويخالط الشباب عليه أن يكبح جماح نفسه وعاداته حتى يكون قدوة حسنة، يفيد ولا يضر؟
عموما نقول للثائر الكبييييييييييييييييييييييير شكرًا جزيلاً فقد عرفنا الآن سبب تصريحاتك التي لا ترتدي أي ملابس مثل الطُرَح وما شابهها، فمن المؤكد أن مزاج سعادتك لم يكن مشيّشًا.
حمى الله مصرنا من أصحاب الهوى والمزاج.
—جمال عبد الغفار بدوي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق