كتب عبد الرحمن البر: يعجب الإنسان كثيرا حين يرى اختلاط المفاهيم الواضحة—أو التي يرى أنها واضحة—على بعض المثقفين وأهل العلم، ولذلك تأخذني الدهشة أحيانا حين أرى جدلا طويلا ونقاشا مستفيضا حول قضية شديدة الوضوح فتتحول إلى قضية مشكلة وملتبسة، ولله در الحكيم الذي قال: «إيضاح الواضحات من المشكلات» .
ومن هذه القضايا التي كثر الجدل حولها قضية البيعة عند الإخوان المسلمين، وقد كثر اللغط من البعض مع ترشيح الأستاذ الدكتور محمد مرسي لرئاسة الجمهورية، وأخذ البعض يثير أسئلة غير مبررة عن ولاء الرئيس القادم (إن شاء الله) وأبدى البعض وأعاد في الكلام حتى الملل بزعم أن الحاكم الفعلي للبلاد سيكون هو المرشد العام باعتبار أن الدكتور مرسي –مثل كل الإخوان المسلمين—قد بايع قيادة الإخوان المسلمين على السمع والطاعة! وهذا خلط عجيب أراني مضطرا إلى توضيحه لإزالة اللبس ودحض الشبهة، مع أن فضيلة المرشد العام –قطعا لدابر التلبيس والتدليس—قد أعلن في المؤتمر الجماهيري بالمحلة الكبرى أنه يحل الأخ الدكتور مرسي من هذه البيعة، ولهذا أكتب اليوم لأوضح هذه القضية، فأقول وبالله التوفيق:
البيعة والمبايعة: عبارة عن المُعَاقَدة والمُعَاهدة بين طرفين على أمر ما، كأنّ كلَّ واحد منهما باع ما عِنده من صاحبه، وأعطاه خالِصَةَ نفسِه وطاعتَه في الموضوع محل المبايعة، والبيعة تنقسم قسمين: بيعة عامة، وبيعة خاصة.
فالبيعة العامة: هي بيعة المواطنين للحاكم أو الرئيس، إذ لا بد للأمة من حاكم يقيم الدين، وينتصف للمظلومين، ويستوفي الحقوق، ويقيم العدل، ويفصل بين السلطات، وبيعة هذا الرئيس وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما أخرجه مسلم: «مَنْ مَاتَ وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً»، ومن صور هذه البيعة الانتخابات، فمن حاز على ثقة أغلبية الشعب في انتخابات حرة نزيهة فقد انعقدت له البيعة من جميع المواطنين حتى الذين لم يعطوه أصواتهم، وتقتضي هذه البيعة دُخُولَ المواطنين جميعا تَحْتَ طَاعَةِ الحاكم في غير معصية الله، وَعليهم أن يَسْمَعوا وَيُطِيعوا لَهُ فِي السِّرِّ والعلانية، وَلَا يَعْتَقِدوا خِلَافًا لِذَلِكَ، فَإِنْ أَضْمَرَ أحد المواطنين خيانة هذه البيعة والخروج عليها بالسلاح فَمَاتَ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً لِأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةً.
وهذه البيعة مثلما توجب السمع والطاعة له فإنها توجب عليه القيام بواجباته التي بايعه المواطنون عليها والتي يحددها الدستور والقانون، وتراقبه الأمة ومؤسساتها في أدائها، فإن قصر في القيام بواجباته فعلى الأمة أفرادا ومؤسسات أن تبادر بنصحه وإرشاده، فإن أبى وامتنع سعوا في خلعه وإبعاده عبر الانتخابات أو سحب الثقة أو غير ذلك من الوسائل التي يحددها الدستور والقانون.
ومع أنه تجوز معارضة هذا الحاكم وتجب نصيحته وتذكيره من قبل الأفراد والمؤسسات في الدولة؛ فإنه لا تجوز مبايعة غيره، ولا يجوز الخروج عليه بالسلاح، فقد أخرج مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ بَايَعَ إِمَامًا فَأَعْطَاهُ صَفْقَةَ يَدِهِ وَثَمَرَةَ قَلْبِهِ فَلْيُطِعْهُ إِنِ اسْتَطَاعَ، فَإِنْ جَاءَ آخَرُ يُنَازِعُهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَ الآخَرِ»، كما أخرج مسلم قوله صلى الله عليه وسلم: «سَتَكُونُ بَعْدِي هَنَاتٌ وَهَنَاتٌ (أي شرور وفساد)، فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُفَرِّقَ أَمْرَ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلموَهُمْ جَمْعٌ فَاضْرِبُوهُ بِالسَّيْفِ» كما أخرج مسلم أيضا عَنِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ: «كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمُ الأَنْبِيَاءُ، كُلَّمَا هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ وَإِنَّهُ لاَ نَبِيَّ بَعْدِي وَسَتَكُونُ خُلَفَاءُ فَتَكْثُرُ». قَالُوا: فَمَا تَأْمُرُنَا؟ قَالَ: «فُوا بِبَيْعَةِ الأَوَّلِ فَالأَوَّلِ، وَأَعْطُوهُمْ حَقَّهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ سَائِلُهُمْ عَمَّا اسْتَرْعَاهُمْ »، وأخرج البخاري عن عمر رضي الله عنه قال: «مَنْ بَايَعَ رَجُلًا عَنْ غَيْرِ مَشُورَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَلَا يُبَايَعُ هُوَ وَلَا الَّذِي بَايَعَهُ تَغِرَّةً أَنْ يُقْتَلَا» (أي حذراً من القتل، فإن من فعل ذلك فقد غرر بنفسه وبصاحبه وعرضهما للقتل)
وإذاً فهذه البيعة العامة للحاكم لا يجوز أن تعطى لاثنين شرعا، وهي ليست البيعة التي يبايع عليها الإخوان قيادتهم على الإطلاق، وليس المرشد العام في نظر الإخوان حاكما، ولا منازعا للحاكم القائم على الإطلاق.
القسم الثاني: هو البيعة الخاصة، وهي بيعة على أمر خاص غير الحكم، كالبيعة على التعاون في نشر الدين ونصرة القيم والأخلاق والعمل لإعزاز الدين وغير ذلك، وهذه يمكن أن تكون بين الحاكم وبعض رعيته ولا يلزم أن تكون عامة لجميع المواطنين، كما يمكن أن تكون بين أي مجموعة من الناس، وهذه البيعة يجب أن يلتزم بها من بايع عليها، فقد قال تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ وقال تعالى ﴿وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا﴾، ويكون الالتزام أوجب إذا تعاهد أطراف هذه البيعة على الالتزام بفريضة الشورى فيما بينهم، كما هو الحال في جماعة الإخوان المسلمين. أما من لم يبايع هذه البيعة الخاصة فليس ملتزما بالوفاء بها.
فمما بايع عليه النبي صلى الله عليه وسلم بعض الناس بيعة خاصة: ما أخرجه مسلم عن جَرِير بْن عَبْدِ اللَّهِ قال: «بَايَعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَلَى النُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ»، ومن ذلك ما بايع عليه النساء بعدم النوح، فقد أخرج الشيخان عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ: «أَخَذَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْبَيْعَةِ أَنْ لَا نَنُوحَ»، ومن لطائف روايات هذا الحديث: أن إحدى النساء امتنعت من هذه البيعة حتى تجامل امرأة في النياحة على ميتها، ثم جاءت فبايعت، فقد أخرج البخاري عن أم عَطِيَّةَ، قَالَتْ: بَايَعْنَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَرَأَ عَلَيْنَا ﴿أَنْ لاَ يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئًا﴾ وَنَهَانَا عَنِ النِّيَاحَةِ، فَقَبَضَتِ امْرَأَةٌ يَدَهَا، فَقَالَتْ: أَسْعَدَتْنِي فُلاَنَةُ أُرِيدُ أَنْ أَجْزيهَا (يعني ناحت على ميت لي وأريد أن أفعل ذلك معها)، فَمَا قَالَ لَهَا النَّبِي صلى الله عليه وسلم شَيْئًا، فَانْطَلَقَتْ وَرَجَعَتْ فَبَايَعَهَا.
وهذه البيعة يمكن أن تسمى عهدا أو عقدا أو اتفاقا أو نحو ذلك، وليست معارضة على الإطلاق للبيعة العامة التي يعطيها المواطنون للحاكم، وفي السيرة للفزاري: قال أبو إسحاق الفزاري: قلت للأوزاعي: لو أن إمامنا أتاه عدو كثير فخاف على من معه فقال لأصحابه: تعالوا نتبايع على أن لا نفر، فبايعوا على ذلك؟ قال: ما أحسن هذا. قلت: فلو أن قوما فعلوا ذلك بينهم دون الإمام؟ قال: لو فعلوا ذلك بينهم شبه العقد في غير بيعة.
وهذه البيعة الخاصة هي البيعة القائمة بين الإخوان المسلمين وبين قيادتهم، فالإخوان العاملون يبايعون قيادتهم على السمع والطاعة في غير معصية الله لنصرة الإسلام ونشر دعوته وقيمه وجمع الناس عليه، وفق فهم الإخوان الوسطي المعتدل للإسلام وعلى ضوء الضوابط المنظمة للعمل الجماعي الذي ارتضاه جميع الإخوان، ولا يبايعون المرشد حاكما لا على مصر ولا على غيرها، وبالتالي فلا معنى لما يردده البعض من محاولة الإيهام بأن الدكتور محمد مرسي حين يختاره الشعب رئيسا للجمهورية بإذن الله سوف يكون تابعا للمرشد العام أو سيكون مزدوج الولاء بين ولائه للوطن وولائه للإخوان، وقد أعلن الأستاذ الدكتور محمد مرسي بوضوح أنه حين ينتخب رئيسا بإذن الله فإن المرشد العام بالنسبة لوضعه القانوني هو مواطن مثل كل المواطنين مع كامل الاحترام لشخصه وموقعه، فهل يعي الجميع حقيقة هذه القضية الواضحة؟
—عبد الرحمن البر
المصدر: رصد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق