عندما تكتب شخصية مثل حمدي قنديل مقالاً في وقت مثل هذا، يقطر بالحنكة والذكاء والدبلوماسية العبقرية، ليقنع به [أجعس جعيس] من المثقفين من أبناء الوطن بأن تجنب المرشحين ذوي المرجعية الإسلامية شيء حكيم للمرحلة (وبالمرّة يشارك في تلطيخ سمعة الإخوان بَرْضَك مع الملطخين—ومالُه ياخويا مش عيب ده أقلّ الواجب في الزمن ده)، وليقنع القارئ بأن حمدين صباحي هو الاختيار الأنسب للمرحلة…فماذا أقول؟
أقول لبعض أصدقائي ومعارفي، ولمن يعرف فِكري ومن لا يعرفني، من الليبرالِمَانيين، أني أسامحكم جميعاً عن طيب خاطر، سواء في سوء الظن بالإخوان أو تلطيخ سمعتهم أو ترديد ما سمعتموه عليهم، أو في التخلي عن المشروع الإسلامي، أو معاداة التيار الإسلامي. لست إخوانياً أو سلفياً، ولكني أنتمي إلى المشروع الإسلامي فكراً وقلباً.
فعلاً أسامحكم وأتفهم موقفكم، لأني أعي جيداً مدى صعوبة رفض كلام مثل هذا…أدرك عسر عدم الاقتناع برسالة مثل هذه…أشعر باستحالة مقاومة سحر…حمدي قنديل—عند بعض الناس. الرجل كاد أن يقنعني أنا! بكل أسوار المنطق والموضوعية والحذر التي رفعتها—بشق الأنفس—على مر الشهور السابقة والأعوام التي سبقت الثورة، وبكل المحبة والانتماء لديني ولمن يحب ديني ويعمل له، بالرغم من كل هذا، كاد حمدي قنديل أن يقنعني—ربما لأنه يكتب بإخلاص المقتنع بأن كلامه لا يحمل إضعاف شوكة الإسلام وضياع المجتمع في طياته. فما بالنا بما يستطيع أن يفعله حمدي قنديل في مئات الآلاف ممن لم يقرءوا عن تاريخ الإخوان ولا يعرفون عنهم إلا أقل القليل—وبعضه إشاعات ومبالغات، وما بالنا بما يستطيع أن يبثه قنديل في عقول مئات الآلاف ممن لم يهتموا أبداً بفهم السياسة الإسلامية (أو قوانين الله لإدارة المجتمع وعلاقاته الخارجية) ومغزاها ودورها في المجتمع الإنساني، دورها الذي كاد أن يكون مسألة حياة أو موت للمجتمع نفسه.
فإنك إما أن تحيى عزيزاً بقوانين الله أو تموت ذليلاً بما تجلبه قوانين البشر—القوانين الوضعية—من كيماويات تُرش على طعام الناس؛ وكيماويات تُرش فوق رؤوسهم في المدن بطائرات نفاثة؛ وإبَر مسمومة بأمصال تلوث دم الحيوانات بالمرض نفسه المفترض الوقاية منه، وإبَر أخرى مسمومة بتطعيمات لا يحتاجها الأطفال بل تحتاجها النخبة في اختباراتهم على الجنس البشري وقتل بعض الشعوب ببطء؛ واقتصاد ربوي قائم على الهواء وينتظر الانفجار في أي لحظة وبإشارة من أحد أغنياء النخبة؛ وعبودية للديون والرهون العقارية؛ وحروب تقتنع بأهميتها بعد غسيل المخ الإعلامي؛ وديمقراطية مسرحية هزلية جوفاء، ولاء كل مرشحيها إلى جهة واحدة وهي النخبة؛ و…و…وإلى آخره مما تأتي به قوانين البشر الوضعية من مهازل وظلم وفساد مُطبِق. إما أن يحيى المجتمع بقوانين الله أو يموت هكذا لا محالة بقوانين البشر.
ولكن إذا كان كلام حمدي قنديل، ودبلوماسيته المتأدبة العبقرية، كادت أن تسحرني بالرغم من انتمائي الفِكري العميق لقضية المشروع الإسلامي، فما بالنا بما يمكن أن يفعله كلامه في الكثير من إخواني وأخواتي ممن لا انتماء لهم أصلاً للمشروع الإسلامي!
إني أقدّر وأتفهم. ولا لوم عليكم إن صدّقتم الرجل وكذبتم الإخوان وتحسّرتم على اقتناعاتي وسذاجتي أنا أيضاً [بالمَرَّة]. لا لوم فعلاً، فإن الأمر أكبر مني ومنكم؛ والمؤامرة أقدم وأعمق مما يمكن أن يتخيل أي عربيّ—ولو كان هذا العربيّ أكثر الباحثين حنكة في نظرية المؤامرة وتاريخ المؤامرات.
ظنّي أني دائماً سأظل أحاول وأجتهد في تصحيح المفاهيم ودحض الأكاذيب، ولكني في نفس الوقت قد أعذر الناس ومن يصدق الإشاعات؛ قد ألتمس لهم أعذاراً أكثر، لأني أفهم الآن مدى صعوبة رؤية الحقائق في عصرنا هذا. ووالله إني لا أدَّعي العلم بالحقائق كلها ولا حتى أغلبها، وإنما هي بعض الثوابت الراسخة التي أعتمد عليها لتكوين القليل من الآراء واستخراج الاستنتاجات بعد ذلك عن أي بوق إعلامي أو فكرة مشبوهة.
وبخصوص رسالة حمدي قنديل الرئيسية—مرشحه المفضَّل، فإن حمدين صباحي ليس سيئاً في رأيي، بل بالعكس، إني أفضل اتجاهاته الاقتصادية (اليسارية المائلة إلى الطبقات الكادحة) بكثير عن اتجاهات الإخوان الاقتصادية (اليمينية المائلة إلى الخصخصة) في مشروع نهضتهم، ولعل هذا يقنع البعض بأني لا ولم أؤمن أبداً بأن الإخوان كاملون أو فوق النقد، وإنما هي مسألة انتصار لديني وشريعة ديني ومسألة ثقة في أنهم—وإن كان لهم أخطاء—فهم على الأقل فيهم الكثير من المخلصين ممن يريدون بالفعل إعلاء كلمة الله ونصرة دينه في الأرض—أرض الوطن. ولكن على الجانب الآخر، بالرغم من ميلي ليسارية صبّاحي الاقتصادية ومآخذي على بعض قرارات وسياسات الإخوان، إلا أنني إنسان لن يثنيني عن نصرة ديني وشريعته لا اقتصادٌ ولا حرياتٌ شخصية ولا شهواتٌ ولا مالٌ الدنيا كلُّه؛ في نهاية الأمر، أدرك أن فرص تطبيق أكبر قدر ممكن من شريعة ديني، فرص تطبيق قوانين الإسلام—والتي فقط بها تستقيم أمورُ حياتِنا ومجتمعُنا كله، أكبر مع مرشح ذا مرجعية إسلامية عما هي مع حمدين صبّاحي، وبالتالي فتأييدي سيكون دائماً للمرشح الذي أشعر وأرى أن فرصة التمكين لشريعة ديني معه أكبر—كائناً من كان. وهذا عملاً بالقول المأثور لعثمان بن عفّان—رضي الله عنه: ’إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن‘.
وأؤكد أن القضية ليست قضية شريعة [وخلاص]، وليست قضية قشور أو أمور ثانوية، ولست حتى أريد—ولا أدعو إلى—تطبيق قانون العقوبات الإسلامي في أي وقت قريب—ليس قبل أن تتحول مصر إلى أندلس القرن الحادي والعشرين مثلاً؛ وإنما هي قضية إيمان عميق بأن وطننا المسلم لم ولن يستقيم شأنه أبداً…أبداً (!) إلا بإقامة أوامر الله وحظر نواهيه. وكمثال واحد للاختصار، إقامة أحكام الشريعة، أو قوانين الإسلام، معناه مثلاً حظر التعاملات المالية بالفوائد (أي تحريم الربا في لغة الدين)؛ وأي مجتمع لا يَحْظُرُ الفوائد في التعاملات البنكية هو مجتمع مسكين في حرب دائمة. أتدرون حرب ضد من؟ ضد الله نفسه! أي أن الله ما زال يحاربنا حرباً صريحة، الله نفسه، رب السماوات والأرض، يحاربنا جميعاً كمجتمع ونحن نتعامل بالفوائد. وهاهو الدليل القاطع من القرآن نفسه: ’يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴿٢٧٨﴾ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّـهِ وَرَسُولِهِ‘—سورة البقرة ٢٧٨-٢٧٩. ألسنا مساكين، فقط بنقطة مثل هذه، كمجمتع يرتع في الفوائد البنكية؟ وقُم بالقياس على هذه النقطة لتستنتج خسارة وبوار مطبق بدون طاعة الله في أمور أخرى تكاد لا تحصى في المجتمع، فهناك أدلة واضحة في صفحات ديننا أن إقامة أوامر الله أهم من أي شيء في الدنيا لنا كمجتمع؛ هذه هي رسالتي وقضيتي، وهذا منبع إصراري على عدم التخلي عن المشروع الإسلامي أبداً، ومساندة السياسي الذي يعطيني وعداً بأنه سيطبق شريعة الله—وليس لي الحكم على نواياه أو الدخول في قلبه كما لا تحب أن أفعل أنا معك ذلك. ولا أهتم بمنطق من يتشدّق بأن الرئيس لا يشرّع، وإنما هو البرلمان الذي يفعل هذا، فلا يجوز للمرشح أن يزايد أو يتلاعب بالعواطف ذاكراً مسألة الشريعة، فهذا منطق فاسد ومغالط، لأننا طالما لم نتحول إلى دولة برلمانية برئيس مهمّش أو شكلي، وإنما ظللنا دولة سلطتها التنفيذية يتشارك فيها الرئيس والحكومة، فإن تأييد الرئيس لأي قضية في الوطن يصبح مطلباً من الرئيس؛ ولنا في تجاهل حكومة الجنزوري والمجلس العسكري لطلبات، بل ولتشريعات البرلمان عبرة.
وفي النهاية أقول: أيها الليبرالِمَانيون، عفواً…إني أتفهم موقف من نفر منكم من المشروع الإسلامي، فجنح لمرشّح مثل حمدين صباحي؛ الضغوط الفِكرية قد تكون فوق طاقة الأغلبية العظمى منّا اليوم. سأظل أتحدث وأكتب ضد فكركم—أو الفِكر الذي تتبعونه، ولكني أسامحكم؛ سأظل أرفض فكركم وأرى فيه الشر للأمة، ولكني أتفهم موقفكم وأتعاطف معه، لأنه بالفعل…الزنّ على الأذن، وبالذات من عباقرة دبلوماسية ورموز مصداقية عند البعض مثل حمدي قنديل…أمَرّ من السحر!
—ياسين رُكَّه
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق