قال لي أحد الإخوة: ’أنا لا أحارب الإسلام وشريعته، بل أحارب الإخوان والسلفيين فقط.‘
سألته: ’إذن، فأنت بالتأكيد تؤيد الليبراليين والعَالَمَانيين من النُخبة؟‘
قال: ’نعم، إنهم متوسطون وليسوا متشددين أو منافقين.‘
قلت: ’أولاً، الحُكم بنفاق أهل الأحزاب الإسلامية كلهم وصدق الليبراليين هو ضرب من التخمين والتنجيم؛ وأنت نفسك لن تقبل أن أحكم أنا على نواياك أو نفاقك من عدمه. فلماذا تقبل على غيرك ما ترفضه على نفسك؟ وإذا كان الموضوع موضوع أفعال وشواهد، فكل ما يُشاع هذه الأيام عن الأحزاب الإسلامية له رد؛ فمثلاً، الإخوان لم يخالفوا 'عهوداً'، بل إنهم لم يعطوا عهوداً على الإطلاق من الأصل، وإنما كان عندهم قرارات سياسية محددة لفترة أو مرحلة سياسية محددة، ثم غيروها بتغير الظروف، وهذا شيء تفعله كل الأحزاب السياسية في مختلف أنحاء العالم. أي أن المدّعين هم من حوّلوا 'قرارات المرحلة' إلى 'عهود'، بقدرة قادر وعلى مزاجهم. يعني، يكذبون على الأحزاب الإسلامية ويغالطون في المعاني والألفاظ، ثم يستخدمون أكاذيبهم في الاتهامات! وهناك أمثلة تكاد لا تُحصى على هذا، مثل التصريحات التي تم تلفيقها لنادر بكّار كذباً وهو كذبها بنفسه بعد ذلك؛ والحساب المزوّر لنائبة البرلمان، عزّة الجرف، الذي نَشَر كذباً—وكأنه على لسانها—تصريحاتاً عن الختان وإلغاء قانون التحرش الجنسي وتخاريفاً أخرى، ثم أعلنت بعدها عزة نفسها أنه لا يوجد لديها حساب على «تويتر» من الأصل في تاريخه؛ ومثل الحساب المزور والأكاذيب التي نُسبت إلى الشيخ حازم شومان، مثلاً أنه أصدر فتوى بأن التصويت لحازم أبو اسماعيل ’جهاد في سبيل الله‘، ثم أعلن الشيخ حازم شومان نفسه أن ليس له حساب على تويتر أو فيسبوك في تاريخه. وهذه فقط أمثلة قليلة من مئات من المغالطات والأكاذيب التي يتداولها بعض الناس عن الأحزاب الإسلامية وكل ذي مرجعية إسلامية من السياسيين.
ثانياً، هناك فرق كبير بين النقد الموضوعي البنّاء لبعض أخطاء الإخوان والسلفيين—وأنت تؤيدهم وتدعو لهم بالهداية والنجاح، وهم ليسوا فوق النقد بالتأكيد لأن كلّ يؤخذ منه ويُرد إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم؛ هناك فرق بين الاختلاف مع السلفيين في بعض الأمور والاختلاف مع الإخوان في بعض القرارات والأمور—وأنت تحبهم كإخوانك في الدين؛ وبين معاداة وكراهية السلفيين، وسبّ ولعن وشتم ومحاربة الإخوان. شتّان بين هذا السلوك وذاك العداء.
ثالثاً، قال الشَعْراوي والغَزَالي والمُقدّم وغيرهم أن العَالَمَانية عدو الإسلام، وقال المستشرقون والباحثون الغربيون أن الإسلام عدو العَالَمَانية. أي أنه إما جهل، أو ضلال وتضليل أن يدّعي أحدهم أنه لا يعادي الإسلام بتأييده للعَالَمَانية كنظام للحُكم والتحكّم في المجتمع والدولة.
وتذكر مثال تحويل 'قرارات المرحلة' إلى 'عهود' لتدرك أن هذه الناس تتلاعب بالألفاظ والمصطلحات كي تمهد لنشر الأكاذيب والإعلام المُضلّل، فمثلاً بعد انتشار الوعي عن حقيقة العَالَمَانية، أتوا بمصطلح آخر خبيث بديل عنها وهو مصطلح 'المَدَنيّة'. فعندما يتحدث أحدهم عن المَدَنيّة، تذكر أن تقول إما جهراً أو في سرّك، 'آه، تقصد العَالَمَانية'. وإذا حاول أن يقنعك أن هناك فرق، العب لعبته، لعبة السِيمَانْتِكْس أو لعبة المعاني والمصطلحات، واشرح للحاضرين أو الآخرين الآتي: مدنية، يعني قانون مدني غربي، لا قانون إسلامي؛ ومرجعية ال'مبادئ' الإسلامية التي يتشدقون بها في المادة ٢ هي المبادئ الإنسانية التي يتفق عليها العالم كله وليست القوانين أو الأحكام الإسلامية نفسها، والتي لا دخل لها بال'حدود' أو قانون العقوبات؛ يعني هم يتفقون معنا في ال«مبادئ»، ولهذا يقولون لنا صراحة أنهم بالفعل يأخذون بمبادئ الإسلام، ولكن يختلفون معنا في ال«أحكام» ولهذا يريدون سراً وبخبث تطبيق قوانينهم المدنية لا أحكام الإسلام، ويختلفون أيضاً معنا في ال«حدود» ولهذا يريدون قانون العقوبات الخاص بهم لا حدود الإسلام، ونحن لا نهتم بالحدود في هذه المرحلة في ظل الفقر والجهل الشديد الذي نعيش فيه، ولكن لا تنازلات في الأحكام التي تجعل الله هو الحَكَم علينا؛ مبادئ، أحكام، حدود، اعرف الفرق؛ ومَدَنية، مدينة...عالَم، عَالَمَانية. العب غيرها.
والتشابه بين العَالَمَانية والليبرالية معلوم، لأن الليبرالية—مثل العَالَمَانية—لا تحتمل 'ظهور' الأديان بقوانينها وقواعدها (وهو منبع الفِكر والقول بأن الدين قضية شخصية فقط بين الفرد وإلهه)؛ والليبرالية لا تحتمل الهوية الدينية في الدولة، حيث أن الأديان تضع حداً على الحريات التي تؤثر على المجتمع سلباً من المنظور الرباني، في حين أن الليبرالية لا توافق على الكثير من هذه القواعد وتراها ضد مبدأ الحرية الشخصية. أي أن الليبرالية لا توافق دائماً على أن الكثير من التصرفات (أو الحريات الشخصية بلغتها) في الأماكن العامة، مثل التدخين وسلوك الشذوذ الجنسي، تؤثر سلباً على المجتمع. وتماماً مثل العَالَمَانية، تجعل الليبرالية تحديد القوانين المتعلقة بهذه الأمور في أيدي النخبة—فتتأخر بعض القوانين الضرورية، وليس في يد الخالق الحَكَم، الله وحده. وبالتالي، العَالَمَانية والليبرالية، اختلفت الدلالات اللفظية أو السِيمانْتِكْس، ولكنهما وجهان لعملة واحدة، وهي عملة المعارضة والمقاومة لمظاهر الدين وهيكله وكل شيء فيه عدا الشعائر التعبدية.
أي أن ما قاله الشعراوي والغزالي والمقدم ينطبق على الليبرالية كما انطبق على العَالَمَانية أو المَدَنيّة: هي أفكار وأنظمة معادية، محاربة، منازعة للإسلام في الوجود بطريقة مباشرة وعميقة.
وبناءً عليه، إن قلت لي أنك بمحاربتك للإخوان والسلفيين، لا تحارب الإسلام نفسه، لكان علينا أن نستنتج بالمنطق أنك بتأييدك ودعمك للليبراليين والعَالَمَانيين لا تؤيد أو تساعد لا الليبرالية ولا العَالَمَانية؛ وهو بالتأكيد ما لا يقبله العقل أو المنطق.
إنها مغالطة وتحايل لفظي خبيث أن يدّعي البعض أن بدعمهم لذوي الفِكر الليبرالي والعَالَمَاني هم لا يدعمون الليبرالية والعَالَمَانية نفسها كأنظمة سياسية على حساب الإسلام كنظام شامل متكامل—وليس فقط سياسي—لإدارة شئون الدولة المسلمة والمجتمع المسلم. وبناءً عليه، فهو أيضاً جهل أو غسيل مخ أو مغالطة وتحايل لفظي أن يدعي أحدهم أن بمحاربته للإخوان والسلفيين هو لا يحارب الإسلام نفسه. معلوم أن لا الإخوان ولا السلفيين ولا أي فرد أو جهة يمكنها أن تمثل الإسلام كله، ولكن السؤال الهام هنا هو: هل عندك اختيارات أخرى ذات مرجعية إسلامية على الساحة السياسية لوطنك؟ إن تركت حزباً إسلامياً لحزب آخر إسلامي، لقلنا أنك بالتأكيد تؤيد الإسلام؛ أما أن تترك كل الاختيارات الإسلامية وتختار حزباً ليبرالياً أو عَلَمَانياً ثم تُصرّ أنك لا تعادي الإسلام، فهو ما لا يقبله العقل أو المنطق بعد شرح النقاط السابقة. والزعم بأنه ليس خطأك لأن كل ذوي المرجعية الإسلامية على الساحة، من إخوان، مروراً بالسلفيين، وإلى أبو اسماعيل، ليسوا أهل ثقة وليسوا صالحين، هو حجة واهية وتحامل صريح على كل ما هو إسلامي المرجعية.
وانطلاقاً من تضاد الإسلام مع الأنظمة السياسية الوضعية، لا يوجد شيء اسمه 'مسلم ليبرالي' أو 'مسلم عَالَمَاني'؛ أنت إما مسلم أو عَالَمَاني، إما مسلم أو ليبرالي. الخلط بينهما إما جهل، أو ضلال، أو تضليل متعمّد. لأن الإسلام مثل الماء والهواء، إن دخله وتخلله وزاحمه شيء ليس ذا مرجعية ربّانية سماوية مؤكدة، لعكّره أو حوله إلى شيء آخر غير الماء أو الهواء. نحن كمسلمين مرجعيتنا الإسلام، ومرجعية الإسلام هي الله، وكلّ نظام أو فِكر ذي مرجعية غير الله مرجعيته بشرية وضعية من 'نخبة' ما، وهذه النخبة لا تريد في الأصل شيئاً سوى مزاحمة الله في حُكم الناس والأرض والتحكم في الدنيا. مهما حاولوا أن يقنعوك أن دينك به مساحة للترحيب بأنظمتهم وفِكرهم، فتذكر أنه كما لا يمكن لبشر أبداً أن يزاحم الله في الحُكم والتحكم، فلا يمكن لنظام بشري أبداً أن يزاحم نظاماً إلهياً في الحُكم والتحكم؛ لابد أن تصبح معركة، سواءً معركة عسكرية أو معركة فِكرية أيديولوجية إعلامية، ينتصر فيها المسلمون للنظام الإلهي ولدين الله، أو يخذل أغلب المسلمين دين الله فينتصر أعداء الله ومزاحموه بأنظمتهم مؤقتاً.
إن لم يكن عندك اختيارات إسلامية أخرى غير الإخوان والسلفيين، وما اخترته هو حزب أو فرد ذو فِكر ونظام غير إسلامي، فمنطقي أنك وقتها تحارب الإسلام وتُضعِف شوكته، وتدعم الأنظمة الأخرى على حسابه. قد تسأل متعجباً: 'وهل الآخرين ليسوا مسلمين؟' وردي هو: أخي، عجب العجاب هو أن تكذب شخصاً يجتهد في إثبات مرجعيته وانتمائه الإسلامي بانضمامه إلى حزب إسلامي وباتباعه للسنة والتحدث بلغة الإسلام والدعوة إلى إقامة شرائع الله، عجب العجاب هو أن تكذب هذا وتصدق شخصاً لا مظهره ولا مصطلحاته ولا مرجعيته ولا خططه السياسية توافق الإسلام بحقّ—بل وتعاديه كما وضحت وشرحت، وكل ما في الأمر هو أن هذا الشخص الآخر يدّعي أنه مسلم 'منفتح' أو 'وسطي'! هل من يريد للإسلام أن يحكم كاذب، ومن يريد للعَالَمَانية أو الليبرالية أن تحكم صادق؟ أي عقل يؤيد تلقائياً تكذيب الأول وتصديق الآخر؟ وحتى إن كان الآخر صادقاً في تأييده لنظام مزعوم، يجمع بين الإسلام والعَالَمَانية أو بين الإسلام والليبرالية، فقد وضحت أن هذا إما جهل، أو ضلال، أو تضليل متعمّد، لأنه لا يمكن لأي أنظمة وضعية أن تتعايش مع الإسلام، بل هي عمداً وبتصميمها وتفاصيلها تزاحم الإسلام مزاحمةً، وأصحاب هذه الأنظمة يشتهون مزاحمة الله في الحُكم والتحكّم.
اللهم إني قد بلّغت، اللهم فاشهد.‘
—ياسين رُكَّه
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق