التفريق بين الفرض والواجب، هل له أثر؟
منقول عن: عبد العزيز بن سعد، من ملتقى الله الحديث
أيها لإخوة،
نجد كثيرا من شراح متون الأصول يذكرون مسائل عويصة ولكن بلا بيان لثمرة الخلاف، ومن تلك المسائل مسألة التفريق بين الفرض والواجب، فقد كان كثير من الطلبة يظن أنها بلا ثمرة عملية، ولكن بعد البحث والنظر رأيت أن لها ثمرة، ولذا أحببت أن أتحف الإخوة بها وأرجو أن ينتفع بها الجميع. فإليكم البحث ولا تحرمونا من التعليقات والمناقشات.
الحمد لله أحق الحمد وأوفاه والصلاة والسلام على رسوله ومصطفاه محمد بن عبدالله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فإن معرفة الاصطلاحات المستخدمة من الأئمة طريق الوصول للفهم الصحيح لما يصدر عنهم من أقوال وفتاوى، وأكثر الأئمة المتقدمين لم يذكروا مصطلحاتهم ولذا اجتهد أهل العلم في بيان ما استعمله كل إمام من المصطلحات الفقهية والأصولية.
وتحرير المصطلحات أمر في غاية الأهمية، ولكم رأينا من ينسب إلى العلماء أقوالا لم يقولوها، وإنما فهمت من قول له، ولم ينص عليها نصا قاطعا. وقد يخطئ الباحث بتحميل مصطلحات متأخرة على أقوال المتقدمين قبل أن يشتهر ذلك المصطلح، وهذه المشكلة موجودة في علم مصطلح الحديث كإعلال الأئمة بالإرسال وحكمهم على الحديث بأن فيه علة، وبأنه ضعيف، أو المرفوع أصح ونحوها من العبارات المستخدمة من المصنفين، وقد لا تكون بالضرورة هي نفس المعرفة في كتب المصطلح المتأخرة كمقدمة ابن الصلاح وما بعده من المؤلفات.
كما أن المصطلحات الأصولية لها نصيب من الخلط والخطأ من قبل بعض الباحثين، فقد يقرأ باحث أن الإمام أحمد كره كذا فيحمله على الكراهة الاصطلاحية، أو قال بأن هذا الأمر سنة أو مستحب فيحمله على ما هو متعارف عليه اصطلاحا، وعند التدقيق وضم كلامه في المسألة الواحدة إلى بعض نرى أنه يقصد معنى آخر.
ومن المسائل الأصولية التي وقع فيها الخلاف بين أهل الأصول مسألة التفريق بين الفرض والواجب، وقد اشتهر أن الجمهور على أنهما واحد وأن الحنفية يفرقون بينهما، إلا أننا وجدنا أن الإمام أحمد يستخدم اللفظين فهل كان يفرق بينهما. ومتى يطلق على المأمور به فرض ومتى يقال واجب.
والمسألة وإن كانت تحتاج إلى استقراء تام ومثله يحتاج إلى وقت واسع، إلا أن محاولة الخروج بنتيجة في هذه المسألة ولو بالاطلاع على بعض المسائل قد يوصل إلى النتيجة الصحيحة، ومن الله أستمد العون والتوفيق.
وأما الدراسات السابقة في البحث في الفرق بين الفرض والواجب فلم أطلع إلا على رسالة للتباني، فقد ذكر حاجي خليفة في كشف الظنون رسالة في الفرق بين الفرض العملي والواجب لجلال الدين رسولا بن أحمد التباني الحنفي المتوفى سنة ثلاث وتسعين وسبعمائة، ولا أعلم عن مكان هذه الرسالة وكونها مطبوعة أم لا. ثم رأيت بحثا لأحد المعاصرين بعنوان: الاختلاف في تباين أو ترادف الفرض والواجب – سببه وثمرته للدكتور ترحيب الدوسري، وهو منشور في مجلة جامعة أم القرى لعلوم الشريعة واللغة العربية وآدابها ج 18، عدد 30.
كما رأيت إشارة في كتاب التأسيس في أصول الفقه لصبري سلامة إلى كتاب للمؤلف سماه: نصب المجانيق لنسف التفريق بين الفرض والواجب. ولم أطلع عليه، وإن كان عنوانه ملفتا للنظر، ولا أعتقد أن الموضوع يحتاج إلى نصب للمجانيق ولا إلى نسف لأحد، والله المستعان.
وأما خطة البحث فقد قسمت البحث مقدمة وثلاثة فصول وخاتمة:
فأما المقدمة فاشتملت على أهمية الموضوع والدراسات السابقة وخطة البحث ومنهج البحث. وأما الفصول فهي على النحو التالي:
1) الفصل الأول: التعريفات اللغوية للواجب والفرض، وتحته مباحث:
a) المبحث الأول: تعريف الواجب لغة
b) المبحث الثاني: المدلول اللغوي للفرض
i) المطلب الأول: تعريف الفرض لغة
ii) المطلب الثاني: الفرق بين فرض الله عليه، وفرض الله له
c) المبحث الثالث: الفرق اللغوي بين الفرض والواجب
2) الفصل الثاني: تعريف الواجب اصطلاحا، وتحته مباحث:
a) المبحث الأول: التعريف بالرسم، وفيه مطلبان:
i) المطلب الأول: أقوال الأصوليين في تعريف الواجب بالرسم، ببيان ثمرته وأثره من ثواب أو عقاب.
ii) المطلب الثاني: أقرب التعريفات بالرسم
b) المبحث الثاني: التعريف بالحد، وفيه مطلبان:
i) المطلب الأول: أقوال الأصوليين في تعريفه بالحد ببيان الحقيقة والماهية
ii) المطلب الثاني: أقرب التعريفات بالحد
3) الفصل الثالث: التفريق بين الفرض والواجب في اصطلاح علماء الأصول، وتحته مباحث:
a) المبحث الأول: القول بأن الفرض والواجب متفقان في الاصطلاح،
b) المبحث الثاني: التفريق بين الفرض والواجب، وتحته عدة مطالب:
i) المطلب الأول: القول بأنهما مختلفان في الاصطلاح
ii) المطلب الثاني: تحقيق قول أحمد في هذه المسألة
iii) المطلب الثالث: حجة من فرق بين الفرض والواجب
iv) المطلب الرابع: الفرق بين الفرض والواجب عند القائلين بالتفريق
v) المطلب الخامس: مناقشة الجمهور للحنفية
vi) المطلب السادس: الراجح من الأقوال
4) الفصل الرابع: مدى الاتفاق والاختلاف في المدلول الاصطلاحي للفرض والواجب، وتحته عدة مباحث:
a) المبحث الأول: وجه الاتفاق بين مفهومي الفرض والواجب
b) المبحث الثاني: أوجه الاختلاف وثمرة الخلاف،وتحته ثلاثة مطالب:
i) المطلب الأول: أوجه الاختلاف
ii) المطلب الثاني: الأثر الخلاف في الفروع الفقهية، وتحته عدة مسائل
(1) المسألة الأولى: سجود التلاوة
(2) المسألة الثانية: صلاة الوتر
(3) المسألة الثالثة: الأضحية
(4) المسألة الرابعة: بعض الأفعال والأقوال في الصلاة
iii) المطلب الثالث: هل التفريق مستعمل في كتب الجمهور
ثم ختمت البحث بخاتمة متضمنة أهم النتائج.
وقد حرصت في هذا البحث على الرجوع إلى المتخصصين في كل مسألة ترد، فالتعاريف اللغوية استقيتها من أهل اللغة، والمسائل الأصولية من أهل الأصول، وأهل كل مذهب من المنتسبين إليه، وهو مع ذلك جهد المقل، فأسأل الله أن يهدينا لما اختلف فيه من الحق بإذنه، وأن يعفو ويصفح عن خطئنا وعمدنا وهزلنا وجدنا وكل ذلك عندنا.
الفصل الأول:
التعريفات اللغوية للواجب والفرض
المبحث الأول: تعريف الواجب لغة
باستعراض ما قاله علماء اللغة نجد أن لكلمة وجب عدة مدلولات:
الأول: اللزوم والتأكيد، فقولهم: وَجَبَ الشيءُ يَجِبُ وُجوباً أَي لزمَ. وأَوجَبهُ هو، وأَوجَبَه اللّه، واسْتَوْجَبَه أَي اسْتَحَقَّه.
وفي الحديث: غُسْلُ الجُمُعةِ واجِبٌ على كل مُحْتَلِم. قال ابن الأَثير: قال الخَطَّابي: معناه وُجُوبُ الاخْتِيار الاسْتِحْبابِ، دون وُجُوب الفَرْض واللُّزوم؛ وإِنما شَبَّهَه بالواجب تأْكيداً، كما يقول الرجلُ لصاحبه: حَقُّكَ عليَّ واجبٌ.
وفي حديث عمر، رضي اللّه عنه: أَنه أَوجَبَ نَجِيباً أَي أَهْداه في حج أَو عمرة، كأَنه أَلزَمَ نفسه به. والنَّجِيبُ: من خيار الإِبل. ووجَبَ البيعُ يَجبُ جِبَةً، وأَوجَبْتُ البيعَ فوَجَبَ. وقال اللحياني: وَجَبَ البيعُ جِبَةً ووُجوباً، وقد أَوْجَبَ لك البيعَ وأَوْجَبهُ هو إِيجاباً؛ كلُّ ذلك عن اللحياني.
وأَوْجَبَه البيعَ مواجبة، ووِجاباً، عنه أَيضاً. وفي الحديث: إذا كان البَيْعُ عن خِيار فقد وجَبَ أَي تَمَّ ونَفَذ. يقال: وجب البيعُ يَجِبُ وجوباً، وأَوْجَبَه إِيجاباً أَي لَزِمَ وأَلْزَمَه.
والمُوجِبَة تَكون من الحَسَناتِ والسيئات. وفي الحديث: اللهم إِني أَسأَلك مُوجِبات رَحْمَتِك.
وأَوْجَبَ الرجلُ إذا عَمِلَ عَمَلاً يُوجِبُ له الجَنَّةَ أَو النارَ. وفي الحديث: مَنْ فعل كذا وكذا، فقد أَوْجَبَ أَي وَجَبَتْ له الجنةُ أَو النارُ. وفي الحديث: أَوْجَبَ طَلْحَةُ أَي عَمِل عَمَلاً أَوْجَبَ له الجنةَ.
وفي حديث مُعاذٍ: أَوْجَبَ ذو الثلاثة والاثنين أَي من قَدَّم ثلاثةً من الولد، أَو اثنين، وَجَبَت له الجنةُ.
وفي حديث طَلحة: كلمة سَمِعتُها من رسول اللّه، صلى اللّه عليه وسلم، مُوجِبةٌ لم أَسأَله عنها، فقال عمر: أَنا أَعلم ما هي: لا إِله إِلا اللّه، أَي كلمة أَوْجَبَتْ لقائلها الجنة، وجمعُها مُوجِباتٌ.
والمُوجِبةُ: الكبيرةُ من الذنوب التي يُسْتَوْجَبُ بها العذابُ؛ وفي الحديث: أَن قوماً أَتَوا النبي، صلى اللّه عليه وسلم، فقالوا: يا رسول اللّه، إِن صاحِباً لنا أَوْجَبَ أَي رَكِبَ خطيئةً اسْتَوْجَبَ بها النارَ، فقال: مُرُوه فلْيُعْتِقْ رَقَبَةً.
وفي الحديث: أَنه مَرَّ برجلين يَتَبايعانِ شاةً، فقال أَحدُهما: واللّه لا أَزِيدُ على كذا، وقال الآخر: واللّه لا أَنقُصُ من كذا، فقال: قد أَوْجَبَ أَحدُهما أَي حَنِثَ.
الثاني: الوُجُوبِ: السُّقوطُ والوقُوعُ. وقد يكون السقوط حسيا بالوقوع من علو إلى سفل، وقد يكون معنويا بمعنى الموت.
• فأما الأول: فتكون الوَجْبة هي السَّقطة مع الهَدَّة. وَوجَبَ وجْبة: سَقَط إِلى الأَرض؛ ليست الفَعْلة فيه للمرَّة الواحدة، إِنما هو مصدرُ كالوُجوب. ووَجَبَتِ الشمسُ وَجْباً، ووُجوباً: غابت، والأَوَّلُ عن ثعلب. وقوله تعالى: فإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها؛ قيل معناه سَقَطَتْ جُنُوبها إِلى الأَرض؛ وفي حديث الضحية: فلما وَجَبَتْ جُنُوبُها أَي سَقَطَتْ إِلى الأَرض، لأَن المستحب أَن تُنْحَرَ الإِبل قياماً مُعَقَّلةً.
وفي حديث سعيدٍ: لولا أَصْواتُ السافِرَة لسَمِعْتم وَجْبةَ الشمس أَي سُقُوطَها مع المَغيب. وفي حديث صِلَةَ: فإِذا بوَجْبةٍ وهي صَوت السُّقُوط.
• وأما الثاني، فالوجوب الموت، ففي الحديث: أَن النبي، صلى اللّه عليه وسلم، جاءَ يَعُودُ عبدَاللّه بنَ ثابتٍ، فوَجَدَه قد غُلِبَ، فاسْتَرْجَعَ، وقال: غُلِبْنا عليك يا أَبا الرَّبِيعِ، فصاحَ النساءُ وبَكَيْنَ، فَجعلَ ابنُ عَتِيكٍ يُسَكِّتُهُنَّ؛ فقال رسول اللّه، صلى اللّه عليه وسلم: دَعْهُنَّ، فإِذا وَجَبَ فلا تَبْكِيَنَّ باكيةٌ، فقال: ما الوُجوبُ؟ قال: إذا ماتَ.
الثالث: الوَجْبةُ: الأَكْلَة في اليوم والليلة. قال ثعلب: الوَجْبة أَكْلَةٌ في اليوم إِلى مثلها من الغَد؛ يقال: هو يأْكلُ الوَجْبَةَ. وقال اللحياني: هو يأْكل وَجْبةً؛ كلُّ ذلك مصدر، لأَنه ضَرْبٌ من الأَكل. يقال: فلانٌ يأْكل وَجْبَةً. وفي الحديث: كنت آكُلُ الوَجْبَة وأَنْجُو الوَقْعةَ؛ الوَجْبةُ: الأَكلةُ في اليوم والليلة، مرة واحدة. وفي حديث الحسن في كفَّارة اليمين: يُطْعِمُ عَشَرَةَ مساكين وَجْبةً واحدةً. وفي حديث خالد بن معَد: إِنَّ من أَجابَ وَجْبةَ خِتان غُفِرَ له.
المبحث الثاني: الفرض عند أهل اللغة
المطلب الأول: تعريف الفرض لغة
بالنظر في كلام أهل اللغة نجد أن الفرض يطلق على معان:
الأول: الإيجاب، قال تعالى: “سورة أنزلناها وفرضناها” [النور/1]، أي: أوجبنا العمل بها عليك، وقال: “إن الذي فرض عليك القرآن” [القصص/85]، أي: أوجب عليك العمل به، ومنه يقال لما ألزم الحاكم من النفقة: فرض.
وافْتَرَضَه: كفَرَضَه، والاسم الفَرِيضةُ. وفَرائضُ اللّهِ: حُدودُه التي أَمرَ بها ونهَى عنها، وكذلك الفَرائضُ بالمِيراثِ. والفارِضُ والفَرَضِيُّ: الذي يَعْرِف الفرائضَ ويسمى العِلْمُ بقِسْمةِ المَوارِيث فَرائضَ. وفي الحديث: أَفْرَضُكم زيد. وفي حديث ابن عمر: العِلْمُ ثلاثةٌ منها فرِيضةٌ عادلةٌ؛ يريد العَدْل في القِسْمة بحيث تكون على السِّهام والأَنْصِباء المذكورة في الكتاب والسنَّة،
وفرائض الله تعالى: ما فرض لأربابها، ورجل فارض وفرضي: بصير بحكم الفرائض. قال تعالى: “فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج” (سورة البقرة: آية 197) أي: من عين على نفسه إقامة الحج، وإضافة فرض الحج إلى الإنسان دلالة أنه هو معين الوقت.
ويقال لما أخذ في الصدقة فريضة. قال: “إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله” (سورة التوبة: آية 60) وعلى هذا ما روي عن ثمامة حدثني أنس بن مالك أن أبا بكر الصديق كتب له: (بسم الله الرحمن الرحيم، هذه فريضة الصدقة التي فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين التي أمر الله بها رسول الله...). والفَرِيضةُ من الإِبل والبقر: ما بلغ عَدَدُه الزكاةَ. وفي الحديث: في الفريضة تجبُ عليه ولا توجَدُ عنده، يعني السِّنَّ المعين للإِخراج في الزكاة.
وفي حديث حُنَيْنٍ: فإِن له علينا ستّ فَرائضَ؛ الفرائضُ: جمع فَرِيضةٍ، وهو البعير المأْخوذ في الزكاة، سمي فريضة لأَنه فَرْضٌ واجب على ربّ المال، ثم اتُّسِع فيه حتى سمي البعيرُ فريضة في غير الزكاة؛ ومنه الحديث: مَن مَنَعَ فَرِيضةً من فَرائضِ اللّه.
الثاني: القطع، قال تعالى: لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا. [النساء/118]، أي مقطوعا عنهم. قال ابن الأَعرابي: الفَرْضُ الحَزُّ في القِدْحِ والزَّنْدِ وفي السَّير وغيره، وفُرْضةُ الزند الحز الذي فيه. وفي حديث عمر، رضي اللّه عنه: اتخذ عام الجدب قِدْحاً فيه فَرْض؛ الفرض: الحَزُّ في الشيء والقطعُ، والقِدْحُ: السهْمُ قبل أَن يُعْمل فيه الرِّيشُ والنَّصْلُ. وفي صفة مريم، عليها السلام: لم يَفْتَرِضْها ولَد أَي لم يؤثِّر فيها ولم يَحُزّها يعني قبل المسيح.
وفَرْضُ الزَّنْد: حيث يُقْدَحُ منه. وفَرَضْتُ العُودَ والزَّندَ والمِسْواكَ وفرَضْتُ فيهما أَفْرِضُ فَرْضاً: حَزَزْتُ فيهما حَزّاً. وقال الأَصمعي: فرَض مِسْواكَه فهو يَفْرِضُه فَرْضاً إذا حَزَّه بأَسنانِه.
وفُرْضةُ النهر: ثُلْمَتُه التي منها يُسْتقى. وفي حديث موسى، عليه السلام: حتى أَرْفَأ به عند فرضة النهر أَي مَشْرَعَتِه، وجمع الفرضة فُرَضٌ.
وفي حديث ابن الزبير: واجعلوا السيوف للمنايا فُرَضاً أَي اجعلوها مَشارِعَ للمنايا وتَعَرَّضُوا للشهادة. وفُرْضَةُ البحر: مَحَطُّ السفُن.
الثالث: التبيين، فقوله تعالى: قد فرَضَ اللّه لكم تَحِلّةَ أَيْمانِكم؛ أَي بيَّنها. وقوله تعالى: سُورةٌ أَنْزَلْناها وفَرَضْناها، ويقرأ: وفرَّضْناها، فمن قرأَ بالتخفيف فمعناه أَلزَمْناكم العَمل بما فُرِضَ فيها، ومن قرأَ بالتشديد فعلى وجهين: أَحدهما على معنى التكثير على معنى إِنا فرضنا فيها فُرُوضاً، وعلى معنى بَيَّنَّا وفَصَّلْنا ما فيها من الحلال والحرام والحدُود.
الرابع: الفَرْضُ: الهِبةُ. يقال: ما أَعطاني فَرْضاً ولا قَرْضاً. والفرْضُ: العَطيّةُ المَرْسُومةُ، وقيل: ما أَعْطَيْتَه بغير قَرْضٍ. وأَفْرَضْتُ الرَّجل وفَرَضْتُ الرَّجل وافْتَرَضْتُه إذا أَعطيته. وقد أَفْرَضْتُه إِفْراضاً.
الأَصمعي: يقال فَرَضَ له في العَطاء وفرَض له في الدِّيوانِ يَفْرِضْ فَرْضاً، قال: وأَفْرَضَ له إذا جعل فريضة. وفي حديث عَدِيّ: أَتيت عمر بن الخطاب، رضي اللّه عنهما، في أُناسٍ من قَوْمِي فجعل يَفْرِضُ للرجل من طَيِّء في أَلفين أَلفين ويُعْرِضُ عني أَي يَقْطَعُ ويُوجِبُ لكل رجل منهم في العَطاء أَلفين من المال.
الخامس: الفَرْضُ: القِراءة. يقال: فَرَضْتُ جُزْئي أَي قرأْته.
السادس: الفارِضُ: الضخْمُ من كل شيء، الذكر والأُنثى فيه سواء، ولا يقال فارِضةٌ. ولِحْيةٌ فارضٌ وفارِضةٌ: ضَخْمةٌ عظيمة، وشِقْشِقةٌ فارِضٌ وسِقاء فارضٌ كذلك.
والفارض: المسن من البقر.قال تعالى: “لا فارض ولا بكر” [البقرة/68]، قال الفرّاء: الفارِضي الهَرِمةُ والبِكْرُ الشابّة. وقد فَرَضَتِ البقرةُ تَفْرِضُ فُروضاً أَي كَبِرَتْ وطَعَنَت في السِّنّ، وكذلك فَرُضَتِ البقرة، بالضم، فَراضةً.
وقيل: إنما سمي فارضا لكونه فارضا للأرض، أي: قاطعا، أو فارضا لما يحمل من الأعمال الشاقة، وقيل: بل لأن فريضة البقرة اثنان: تبيع ومسنة، فالتبيع يجوز في حال دون حال، والمسنة يصح بذلها في كل حال، فسميت المسنة فارضة لذلك، فعلى هذا يكون الفارض اسما إسلاميا. قاله الراغب.
السابع: التَّقْدِيرُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى (“فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ“) أَيْ قَدَّرْتُمْ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ (“لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِك نَصِيبًا مَفْرُوضًا“) أَيْ مَعْلُومًا.
وذكر الفتوحي عدة معان للفرض في شرح مختصر التحرير والزائد منها ثلاثة معان وهي:
1. (َالتَّأْثِير).
2. (وَالإِنْزَالُ) وَمِنْهُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى (“إنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إلَى مَعَادٍ“) أَيْ أَنْزَلَ عَلَيْك الْقُرْآنَ. قَالَ الْبَغَوِيّ: هُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ.
3. (وَالإِبَاحَةُ) وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى (“مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ“) أَيْ: أَبَاحَ اللَّهُ لَهُ.
المطلب الثاني: الفرق بين فرض الله عليه، وفرض الله له
قال الراغب: كل موضع ورد (فرض الله عليه) ففي الإيجاب الذي أدخله الله فيه، وما ورد من: (فرض الله له) فهو في أن لا يحظره على نفسه. نحو: “ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له” [الأحزاب/38]، وقوله: “قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم” [التحريم/2]، وقوله: “وقد فرضتم لهن فريضة” [البقرة/237]، أي: سميتم لهن مهرا، وأوجبتم على أنفسكم بذلك، وعلى هذا يقال: فرض له في العطاء، وبهذا النظر ومن هذا الغرض قيل للعطية: فرض، وللدين: فرض.
المبحث الثالث: الفرق اللغوي بين الفرض والواجب:
قال الراغب: والفرض كالإيجاب لكن الإيجاب يقال اعتبارا بوقوعه وثباته، والفرض بقطع الحكم فيه. وقال التفتازاني في الحدود: وفرق آخر: أن العقليات لا يستعمل فيها الفرض ويستعمل فيها الوجوب، تقول: هذا واجب في العقل، ولا يقال: فرض في العقل.
الفصل الثاني:
تعريف الواجب اصطلاحا
المبحث الأول: التعريف بالرسم
المطلب الأول: أقوال الأصوليين في تعريف الواجب بالرسم، ببيان ثمرته وأثره من ثواب أو عقاب
عرف الواجب بعدة تعريفات على هذا الاتجاه، فمن التعاريف:
1. قال السعد التفتازاني في الحدود: حَـدُّ الواجب: ما يثاب بفعله ويستحق بتركه عقوبة لولا عذره.
2. وقال قوم إنه الذي يعاقب على تركه. واعترض عليه بأن الواجب قد يعفي على تركه ولا يخرج عن كونه واجبا لأن الوجوب ناجز والعقاب منتظر. وَأُجِيبُ: إنَّمَا يَرِدُ لَوْ أُرِيدَ إيجَابُ الْعِقَابِ، وَأَمَّا إذَا أُرِيدَ أَنَّهُ أَمَارَةٌ أَوْ سَبَبٌ لِلْعِقَابِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَخَلَّفَ لِمَانِعٍ، وَهُوَ الْعَفْوُ. وَأَجَابَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ بِحَمْلِ الْعِقَابِ عَلَى تَرْكِ جِنْسِ ذَلِكَ الْفِعْلِ، وَحِينَئِذٍ لَا يَبْطُلُ بِاحْتِمَالِ الْعَفْوِ إلَّا إذَا وَقَعَ الْعَفْوُ عَنْ كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ التَّارِكِ، وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ إلَى كُلِّ الْأَفْرَادِ مِنْ الْوَاجِبَاتِ لَا يَصِحُّ لِدَلَالَةِ الدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ عَلَى عِقَابِ بَعْضِ الْعُصَاةِ.
3. وقيل ما توعد بالعقاب على تركه، واعترض عليه بأنه لو توعد لوجب تحقيق الوعيد فإن كلام الله تعالى صدق ويتصور أن يعفي عنه ولا يعاقب. كما أن بعض الواجبات وردت بصيغة الأمر الجازم بلا ذكر لعقوبة، وهي واجبة عند الجميع، كإعفاء اللحية.
4. وقيل هو ما يستحق تاركه العقاب على تركه. وهو إن أريد بالاستحقاق ما يستدعي مستحقا عليه فباطل لعدم تحقق ذلك بالنسبة إلى الله تعالى على ما بيناه في علم الكلام وبالنسبة إلى أحد من المخلوقين بالإجماع وإن أريد به أنه لو عوقب لكان ذلك ملائما لنظر الشارع فلا بأس به.
5. وقيل هو الذي يخاف العقاب على تركه. ويبطل بالمشكوك في وجوبه. كيف وإن هذه الحدود ليست حدا للحكم الشرعي وهو الوجوب بل للفعل الذي هو متعلق الوجوب.
6. قال القاضي أبو بكر رحمه الله الأولى في حده أن يقال هو الذي يذم تاركه ويلام شرعا بوجه ما لأن الذم أمر ناجز والعقوبة مشكوك فيها وقوله بوجه ما قصد أن يشمل الواجب المخير فإنه يلام على تركه مع بدله والواجب الموسع فإنه يلام على تركه مع ترك العزم على امتثاله. وذكر الزركشي أن المختار عند الْمُتَأَخِّرينَ مَا قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: أَنَّهُ الَّذِي يُذَمُّ تَارِكُهُ شَرْعًا بِوَجْهٍ مَا. فَالْمُرَادُ بِالذَّمِّ مَا يُنَبِّئُ عَنْ اتِّضَاحِ حَالِ الْغَيْرِ، وَتَارِكُ الْوَاجِبِ، وَإِنْ عُفِيَ عَنْهُ فَالذَّمُّ مِنْ الشَّارِعِ لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ وَأَقَلُّهُ أَنَّهُ يُسَمِّيهِ عَاصِيًا، وَهُوَ ذَمٌّ قَطْعًا، وَلَا يُكْرِمُهُ مِثْلَ إكْرَامِ الْآتِي بِهِ، وَإِنْ عُفِيَ عَنْهُ، إذْ يَسْلُبُهُ مَنْصِبَ الْعَدَالَةِ.
7. وقال الشوكاني: فالواجب في الاصطلاح ما يمدح فاعله ويذم تاركه على بعض الوجوه فلا يرد بالواجب المخير وبالواجب على الكفاية فإنه لا يذم في الأول إلا إذا تركه مع الآخر ولا يذم في الثاني إلا إذا لم يقم به غيره.
8. وقال الفتوحي: قَالَ فِي شَرْحِ التَّحْرِيرِ: أُولاهَا—أي التعاريف—(مَا ذُمَّ شَرْعًا تَارِكُهُ قَصْدًا مُطْلَقًا) وَهُوَ لِلْبَيْضَاوِيِّ. وَنَقَلَهُ فِي الْمَحْصُولِ عَنْ ابْنِ الْبَاقِلاَّنِيِّ. وَقَالَ فِي الْمُنْتَخَبِ: إنَّهُ الصَّحِيحُ مِنْ الرُّسُومِ، لَكِنْ فِيهِ نَقْصٌ وَتَغْيِيرٌ. وَتَبِعَهُ الطُّوفِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ، وَلَمْ يَقُلْ "قَصْدًا". فَالتَّعْبِيرُ بِلَفْظِ "مَا ذُمَّ" خَيْرٌ مِنْ التَّعْبِيرِ بِلَفْظِ "مَا يُعَاقَبُ" لِجَوَازِ الْعَفْوِ عَنْ تَارِكِهِ. وَقَوْلُنَا "شَرْعًا" أَيْ مَا وَرَدَ ذَمُّهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَوْ سُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ فِي إجْمَاعِ الأُمَّةِ، وَلأَنَّ الذَّمَّ لا يَثْبُتُ إلاَّ بِالشَّرْعِ خِلافًا لِمَا قَالَتْهُ الْمُعْتَزِلَةُ، وَاحْتُرِزَ بِهِ عَنْ الْمَنْدُوبِ وَالْمَكْرُوهِ وَالْمُبَاحِ، لأَنَّهُ لا ذَمَّ فِيهَا. وَقَوْلُهُ "تَارِكُهُ" اُحْتُرِزَ بِهِ عَنْ الْحَرَامِ. فَإِنَّهُ لا يُذَمُّ إلاَّ فَاعِلُهُ. وَقَوْلُهُ: "قَصْدًا" فِيهِ تَقْدِيرَانِ مَوْقُوفَانِ عَلَى مُقَدِّمَةٍ، وَهُوَ أَنَّ التَّعْرِيفَ إنَّمَا هُوَ بِالْحَيْثِيَّةِ، أَيْ الَّذِي بِحَيْثُ لَوْ تُرِكَ لَذُمَّ تَارِكُهُ؛ إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ بِالْحَيْثِيَّةِ لاقْتَضَى أَنَّ كُلَّ وَاجِبٍ لا بُدَّ مِنْ حُصُولِ الذَّمِّ عَلَى تَرْكِهِ، وَهُوَ بَاطِلٌ. إذَا عُلِمَ ذَلِكَ فَأَحَدُ التَّقْدِيرَيْنِ: أَنَّهُ إنَّمَا أَتَى بِالْقَصْدِ؛ لأَنَّهُ شَرْطٌ لِصِحَّةِ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ؛ إذْ التَّارِكُ لا عَلَى سَبِيلِ الْقَصْدِ لا يُذَمُّ. الثَّانِي: أَنَّهُ احْتَرَزَ بِهِ عَمَّا إذَا مَضَى مِنْ الْوَقْتِ قَدْرُ فِعْلِ الصَّلاةِ ثُمَّ تَرَكَهَا بِنَوْمٍ أَوْ نِسْيَانٍ، وَقَدْ تَمَكَّنَ. وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يُذَمَّ شَرْعًا تَارِكُهَا، لأَنَّهُ مَا تَرَكَهَا قَصْدًا. فَأَتَى بِهَذَا الْقَيْدِ لإِدْخَالِ هَذَا الْوَاجِبِ فِي الْحَدِّ، وَيَصِيرُ بِهِ جَامِعًا، وَقَوْلُهُ "مُطْلَقًا" فِيهِ تَقْدِيرَانِ أَيْضًا مَوْقُوفَانِ عَلَى مُقَدِّمَةٍ، وَهِيَ أَنَّ الإِيجَابَ بِاعْتِبَارِ الْفَاعِلِ قَدْ يَكُونُ عَلَى الْكِفَايَةِ وَعَلَى الْعَيْنِ، وَبِاعْتِبَارِ الْمَفْعُولِ قَدْ يَكُونُ مُخَيَّرًا كَخِصَالِ الْكَفَّارَةِ، وَقَدْ يَكُونُ مُحَتَّمًا، كَالصَّلاةِ أَيْضًا وَبِاعْتِبَارِ الْوَقْتِ الْمَفْعُولِ فِيهِ قَدْ يَكُونُ مُوَسَّعًا كَالصَّلاةِ، وَقَدْ يَكُونُ مُضَيَّقًا كَالصَّوْمِ. فَإِذَا تَرَكَ الصَّلاةَ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا صَدَقَ أَنَّهُ تَرَكَ وَاجِبًا إذْ الصَّلاةُ تَجِبُ بِأَوَّلِ الْوَقْتِ. وَمَعَ ذَلِكَ لا يُذَمُّ عَلَيْهَا إذَا أَتَى بِهَا فِي أَثْنَاءِ الْوَقْتِ. وَيُذَمُّ إذَا أَخْرَجَهَا عَنْ جَمِيعِهِ، وَإِذَا تَرَكَ إحْدَى خِصَالِ الْكَفَّارَةِ، فَقَدْ تَرَكَ مَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لازِمٌ فِيهِ إذَا أَتَى بِغَيْرِهِ. وَإِذَا تَرَكَ صَلاةَ جِنَازَةٍ فَقَدْ تَرَكَ مَا صَدَقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ، وَلا يُذَمُّ عَلَيْهِ إذَا فَعَلَهُ غَيْرُهُ. إذَا عُلِمَ ذَلِكَ فَأَحَدُ التَّقْدِيرَيْنِ أَنَّ قَوْلَهُ "مُطْلَقًا" عَائِدٌ إلَى الذَّمِّ. وَذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ تَلَخَّصَ أَنَّ الذَّمَّ عَلَى الْوَاجِبِ الْمُوَسَّعِ عَلَى الْمُخَيَّرِ وَعَلَى الْكِفَايَةِ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ. وَالذَّمَّ عَلَى الْوَاجِبِ الْمُضَيَّقِ وَالْمُحَتَّمِ وَالْوَاجِبِ عَلَى الْعَيْنِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. فَلِذَلِكَ قَالَ "مُطْلَقًا" لِيَشْمَلَ ذَلِكَ كُلَّهُ بِشَرْطِهِ، وَلَوْ لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ لَوَرَدَ عَلَيْهِ مَنْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ.
وَالتَّقْدِيرُ الثَّانِي: أَنَّ "مُطْلَقًا" عَائِدٌ إلَى التَّرْكِ، وَالتَّقْدِيرُ تَرْكًا مُطْلَقًا لِيَدْخُلَ الْمُخَيَّرُ وَالْمُوَسَّعُ وَفَرْضُ الْكِفَايَةِ. فَإِنَّهُ إذَا تَرَكَ فَرْضَ الْكِفَايَةِ لا يَأْثَمُ، وَإِنْ صَدَقَ أَنَّهُ تَرَكَ وَاجِبًا وَكَذَلِكَ الآتِي بِهِ آتٍ بِالْوَاجِبِ، مَعَ أَنَّهُ لَوْ تَرَكَهُ لَمْ يَأْثَمْ. وَإِنَّمَا يَأْثَمُ إذَا حَصَلَ التَّرْكُ الْمُطْلَقُ مِنْهُ وَمِنْ غَيْرِهِ. وَهَكَذَا فِي الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ وَالْمُوَسَّعِ. وَدَخَلَ فِيهِ أَيْضًا الْوَاجِبُ الْمُحَتَّمُ وَالْمُضَيَّقُ وَفَرْضُ الْعَيْنِ، لأَنَّ كُلَّ مَا ذُمَّ الشَّخْصُ عَلَيْهِ إذَا تَرَكَهُ وَحْدَهُ ذُمَّ عَلَيْهِ أَيْضًا إذَا تَرَكَهُ هُوَ وَغَيْرَهُ.
المطلب الثاني: أقرب التعريفات بالرسم
والأقرب والله أعلم أن أقرب التعريفات بالرسم هو أن نقول:
الواجب: ما يثاب فاعله امتثالا، واستحق تاركه العقاب بلا عذر.
المبحث الثاني: التعريف بالحد، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: أقوال الأصوليين في تعريفه بالحد ببيان الحقيقة والماهية
الذي عليه المحققون من علماء الأصول أن هذه الطريقة أدق، لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره. وممن عرفه بالحد:
1. وعرفه ابْنِ عَقِيلٍ، بِأَنَّهُ إلْزَامُ الشَّرْعِ. وَقَالَ: الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ أَحْكَامُهُ وَمُتَعَلَّقَاتُهُ. قَالَ فِي شَرْحِ التَّحْرِيرِ: فَحَدُّهُ بِهِ يَأْبَاهُ الْمُحَقِّقُونَ وَهُوَ حَسَنٌ.
2. وقال الآمدي: والحق في ذلك أن يقال الوجوب الشرعي عبارة عن خطاب الشارع بما ينتهض تركه سببا للذم شرعا في حالة ما. فالقيد الأول احتراز عن الشارع والثاني احتراز عن بقية الأحكام والثالث احتراز عن ترك الواجب الموسع أول الوقت فإنه سبب للذم بتقدير إخلاء جميع الوقت عنه وإخلاء أول الوقت عزم على الفعل بعده وعن ترك الواجب المخير فإنه سبب للذم بتقدير ترك البدل وليس سببا له بتقدير فعل البدل وعلى هذا إن قلنا إن الأذان وصلاة العيد فرض كفاية واتفق أهل بلدة على تركه قوتلوا، وإن قلنا إنه سنة فلا، وبالجملة فلا بد في الوجوب من ترجيح الفعل على الترك بما يتعلق به من الذم أو الثواب الخاص به، فإنه لا تحقق للوجوب مع تساوي طرفي الفعل والترك في الغرض، وربما أشار القاضي أبو بكر إلى خلافه.
3. وأما الشنقيطي، فعرفه بأنه ما أمر به الشارع أمرا جازما.
المطلب الثاني: أقرب التعريفات بالحد
والأقرب من هذه التعاريف تعريف الشنقيطي رحمه الله.
الفصل الثالث:
التفريق بين الفرض والواجب في اصطلاح علماء الأصول.
اختلف الأصوليون في ترادف الفرض والواجب بعد اتفاقهم على الاختلاف اللغوي في مدلولهما، على رأيين.
المبحث الأول: القول بأن الفرض والواجب متفقان في الاصطلاح
وهذا هو قول جمهور الأصوليين إلا فى الحج، ومستندهم:
1. حَدِيثُ: "قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: لَا، إلَّا أَنْ تَطَوَّعَ" فَلَمْ يَجْعَلْ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالتَّطَوُّعِ وَاسِطَةً، بَلْ الْخَارِجُ عَنْ الْفَرْضِ دَاخِلٌ فِي التَّطَوُّعِ.
2. قَوْله تَعَالَى ("فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ") أَيْ أَوْجَبَهُ. وَالأَصْلُ تَنَاوُلُهُ حَقِيقَةً وَعَدَمُ غَيْرِهِ، نَفْيًا لِلْمَجَازِ وَالاشْتِرَاكِ.
3. وَفِي الصَّحِيحِ: أَنَّ النَّبِيَّ—صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ—قَالَ: "يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: مَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ".
4. وَلأَنَّ كُلاًّ مِنْهُمَا يُذَمُّ تَارِكُهُ شَرْعًا، وَالاسْتِدْعَاءُ لا يَقْبَلُ التَّزَايُدَ. كَجَائِزٍ وَلازِمٍ، وَصَادِقٍ وَكَاذِبٍ. فَلا يُقَالُ: أُجَوِّزُ وَلا أُلْزِمُ؛ لأَنَّهُ انْتَظَمَهُ حَدٌّ وَاحِدٌ، وَهُوَ حَقِيقَةٌ وَاحِدَةٌ.
المبحث الثاني: التفريق بينهما اصطلاحا
المطلب الأول: القول بأنهما مختلفان في الاصطلاح
وهو قول علماء الحنفية. وقال أَحْمَدَ—رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى—في رِوَايَة: أَنَّ الْفَرْضَ آكَدُ. وَاخْتَارَهَا مِنْ أَصْحَابِه: ابْنُ شَاقِلا وَالْحَلْوَانِيُّ، وَحَكَاهُ ابْنُ عَقِيلٍ عَنْ أَصْحَابِه الحنابلة. وَهُوَ مَذْهَبُ َابْن الْبَاقِلاَّنِيِّ. وَلِلْقَاضِي مِنْ أَصْحَابِ الإمام أحمد قَوْلانِ. والذي في العدة لأبي يعلى أنهما متباينان.
المطلب الثاني: تحقيق قول أحمد في هذه المسألة
نجد أن علماء الأصول يذكرون أن للإمام أحمد روايتان في المسألة، ولكن المنقول عنه—رحمه الله—أنه يفرق بين المصطلحين. قال ابن رجب: وأكثر النصوص عن أحمد يفرق بين الفرض والواجب، فنقل جماعة من أصحابه عنه أنه قال: لا يسمى فرضا إلا ما كان في كتاب الله تعالى، وقال في صدقة الفطر: ما أجترئ أن أقول إنها فرض، مع أنه يقول بوجوبها؛ فمن أصحابنا من قال مراده أن الفرض ما يثبت بالكتاب والواجب ما يثبت بالسنة، ومنهم من قال: أراد أن الفرض ما ثبت بالاستفاضة والنقل المتواتر، والواجب ما ثبت من جهة الاجتهاد وساغ الخلاف في وجوبه، ويشكل على هذا أن أحمد قال في رواية الميموني في بر الوالدين: ليس بفرض، ولكن أقول واجب ما لم تكن معصية؛ وبر الوالدين مجمع على وجوبه وقد كثرت الأوامر به في الكتاب والسنة، فظاهر هذا أنه لا يقول فرض إلا ما ورد في الكتاب والسنة فرضا. وقد اختلف السلف في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هل يسمى فريضة أم لا؛ فقال جويبر عن الضحاك: هما من فرائض الله عز وجل، وكذا روى عن مالك وروى عبد الواحد بن زيد عن الحسن فقال: ليس بفريضة؛ كان فريضة على بني إسرائيل فرحم الله هذه الأمة لضعفهم فجعله عليهم نافلة. وسأله المروذي عن الجهاد: أفرض هو، قال: قد اختلفوا فيه وليس هو مثل الحج، ومراده أن الحج لا يسقط عمن لم يحج مع الاستطاعة بحج غيره، بخلاف الجهاد.
ونقل عنه ابنه عبدالله أنه قال: كل شيء في الصلاة مما وكّده الله فهو فرض، وهذا يعود إلى معنى قوله إنه لا فرض إلا ما في القرآن، والذي ذكره الله من أمر الصلاة القيام والقراءة والركوع والسجود؛ وإنما قال أحمد هذا لأن بعض الناس كان يقول الصلاة فرض، والركوع والسجود لا أقول إنه فرض ولكنه سنة.
وقال الإمام أحمد في رواية المروذي: ابن عمر يقول: فرض رسول الله—صلى الله عليه وسلم—صدقة الفطر، وأنا ما أجترئ أن أقول إنها فرض، وقيس بن سعد يدفع أنها فرض.
وكذا ورد عنه أن المضمضة والاستنشاق واجبان وورد أنهما فرض، وصحح ابن عقيل أنهما الوجوب لا الفرضية.
المطلب الثالث: حجة من فرق بين الفرض والواجب
1. قال أبو زيد الدبوسي: الفرض: التقدير، والوجوب: السقوط، فخصصنا اسم الفرض بما عرف وجوبه بدليل قاطع؛ لأنه الذي يعلم من حاله أن الله قدره علينا، والذي عرف وجوبه بدليل ظني نسميه بالواجب؛ لأنه ساقط علينا.
2. أن الفرض في اللغة التأثير ومنه فرضه النهر والقوس والوجوب السقوط ومنه وجبت الشمس والحائط إذا سقطا ومنه قوله تعالى فإذا وجبت جنوبها فاقتضى تأكد الفرض على الواجب شرعا ليوافق مقتضاه لغة ولا خلاف في إنقسام الواجب إلى مقطوع ومظنون.
المطلب الرابع: الفرق بين الفرض والواجب عند القائلين بالتفريق
واختلف القائلون في الفرق بين الفرض والواجب على أقوال:
القول الأول: أن ما طلب الشارع فعله طلبا حتما إذا كان دليل طلبه قطعيا عرف وجوبه بدليل قطعى موجب للعلم والعمل قطعا بأن كان آية قرآنية أو حديثا متواترا فهو الفرض، وإن كان دليل طلبه ظنيا بأن كان حديثا غير متواتر أو قياسا فهو الواجب.
فإقامة الصلاة فرض لأنها طلبت طلبا حتما بدليل قطعي هو قوله تعالى: (أقيموا الصلاة).
وقراءة الفاتحة في الصلاة واجبة لأنها طلبت طلبا حتما بدليل ظني عندهم هو قوله—صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب). وقال التفتازاني في الحدود: ومن وجه آخر فإن السنة المؤكدة تسمى واجباً ولا تسمى فرضاً مثل سجدة التلاوة.
القول الثاني: فَرَّقَ الْعَسْكَرِيُّ بَيْنَهُمَا مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ بِأَنَّ الْفَرْضَ لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ اللَّهِ وَالْإِيجَابَ يَكُونُ مِنْ اللَّهِ وَمِنْ غَيْرِهِ. يُقَالُ: فَرَضَ اللَّهُ كَذَا وَأَوْجَبَ، وَلَا يُقَالُ: فَرَضَ السَّيِّدُ عَلَى عَبْدِهِ، وَإِنَّمَا يُقَال: أَوْجَبَ، أَوْ فَرَضَ الْقَاضِي لَهُ كَذَا. ونسبه التفتازاني في الحدود إلى بعضهم دون تسمية.
القول الثالث: الفرض ما ثبت بالقرآن، والواجب ما ثبت بالسنة. وقد نسبه ابن رجب في جامع العلوم والحكم إلى بعض أصحاب أحمد توجها لأقواله وفتاويه.
القول الرابع: حَكَاه الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ عَنْ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْفَرْضَ مَا أُجْمِعَ عَلَى وُجُوبِهِ وَالْوَاجِبَ مَا كَانَ مُخْتَلِفًا فِي وُجُوبِهِ. ولم أجد أحدا نسبه للحنفية، فلعله لبعضهم.
المطلب الخامس: مناقشة الجمهور للحنفية
قال الشيرازي في اللمع: والتفريق خطأ لأن طريق الأسماء الشرع واللغة والاستعمال وليس في شيء من ذلك فرق بين ما ثبت بدليل مقطوع به أو بطريق مجتهد فيه. وقال الآمدي في الإحكام: كيف وإن الشارع قد أطلق اسم الفرض على الواجب في قوله تعالى: "فمن فرض فيهن الحج" (البقرة: 197)، أي أوجب. والأصل أن يكون مشعرا به حقيقة وأن لا يكون له مدلول سواه نفيا للتجوز والاشتراك عن اللفظ. والذي يؤيد إخراج قيد القطع عن مفهوم الفرض إجماع الأمة على إطلاق اسم الفرض على ما أدى من الصلوات المختلف في صحتها بين الأئمة، بقولهم أد فرض الله تعالى، والأصل في الإطلاق الحقيقة، وما ذكره الخصوم في تخصيص اسم الفرض المقطوع به فمن باب التحكم، حيث إن الفرض في اللغة هو التقدير مطلقا كان مقطوعا به أو مظنونا، فتخصيص ذلك بأحد القسمين دون الآخر بغير دليل لا يكون مقبولا وبالجملة فالمسألة لفظية.
وقال في المحصول: وهذا الفرق ضعيف لأن الفرض هو المقدر، لا انه الذي ثبت كونه مقدرا علما أو ظنا، كما أن الواجب هو الساقط، لا انه الذي ثبت كونه ساقطا علما أو ظنا، وإذا كان كذلك كان تخصيص كل واحد من هذين اللفظين بأحد القسمين تحكما محضا.
وَقَدْ نُقِضَ عَلَيْهِمْ فَإِنَّهُمْ جَعَلُوا الْقَعْدَةَ فِي الصَّلَاةِ فَرْضًا، وَمَسْحَ رُبْعِ الرَّأْسِ فَرْضًا. وَلَمْ يَثْبُتْ بِقَاطِعٍ. قَالَ الْقَاضِي: وَجَعَلُوا الْوُضُوءَ مِنْ الْفَصْدِ فَرْضًا مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ بِقَطْعِيٍّ، وَكَذَلِكَ الصَّلَاةَ عَلَى مَنْ بَلَغَ فِي الْوَقْتِ بَعْدَمَا أَدَّى الصَّلَاةَ، وَالْعُشْرَ فِي الْأَقْوَاتِ، وَفِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ.
المطلب السادس: الراجح من الأقوال
قال ابن عثيمين—رحمه الله—في شرح الأربعين، في شرحه لحديث: أَبِيْ ثَعْلَبَةَ الخُشَنِيِّ: "إِنَّ اللهَ فَرَضَ فَرَائِضَ فَلا تُضَيِّعُوهَا..." الصواب: أن الفرض والواجب بمعنى واحد، ولكن إذا تأكد صار فريضة، وإذا كان دون ذلك فهو واجب، هذا هو القول الراجح في هذه المسألة.
ولم يبين رحمه الله مقصوده من تأكد الأمر، وكأنه أراد أن جمع بين تنظير الجمهور وتطبيهم الفقهي والله أعلم.
الفصل الرابع:
مدى الاتفاق والاختلاف في المدلول الاصطلاحي للفرض والواجب
المبحث الأول: وجه الاتفاق بين مفهومي الفرض والواجب
الفرض والواجب كلاهما لازِمُ الفعل، ومن تركهما أثم. وقد يكون الفرض والواجب سواء عند الجميع في قولهم: صلاة الظهر واجبة وفرض، لا فرق بينهما ههنا في المعنى.
المبحث الثاني: أوجه الاختلاف وثمرة الخلاف
المطلب الأول: أوجه الاختلاف
ذكر كثير من الأصوليين أن الخلاف لفظي، فقد قال الآمدي في الإحكام: وبالجملة فالمسألة لفظية. ومما تقدم نلاحظ أن الخلاف غير لفظي، وله نتائج مترتبة عليه:
النتيجة الأولى: أن من أنكر الفرض كفر، بخلاف الواجب، فالفرضُ ما طلبَ الشرعُ فعلَه طلبًا جازمًا بدليل قطعي، ومن أنكره كفر، ومن تركه يُعاقبُ عليه من قِبَل الله عز وجل. فمن أنكر الوقوف بعرفة، أو أنكر حجاب المرأة فقد كفر، لأنه أنكر أمرًا ثبت عن الشارع بدليل قطعي لا شبهةَ فيه. والواجب ما طلب الشرعُ فعلَه طلبًا جازما ولكنه دون مرتبة الفرض، لأنه ثبت بدليل ظنِّي، كصلاة الوتر، فهذا واجب، ودليلها ظنِّي، والنبيُّ عليه الصلاة والسلام في أحاديث تحدَّث عن صلاة الوتر، ومن أنكر السعيَ بين الصفا والمروة فإنه لا يكفر، لأن السعي من الواجبات. والقاعدة عندهم أن من أنكر الواجب لا يُعتبَر كافرًا، ومن ترك الواجبَ دون أن ينكره فهو فاسق آثمٌ.
النتيجة الثانية: ترك الفرض سهوا مفسد للصلاة ويجبر ترك الواجب بسجود السهو، إذ الفرض أقوى من الواجب، ففي الصلاة ذهب المفرقون إلى أن من ترك فرضا لا يجبر بسجود السهو؛ ولو ترك سهواً بخلاف الواجب عند الحنابلة، حيث أنهم فرقوا بين الواجب والفرض بالنسبة للصلاة، ومثلوا للفرض بالركوع والسجود، ومثلوا للواجب بالتشهد الأول0
النتيجة الثالثة: أَنَّهُ يُثَابُ عَلَى الفرض أَكْثَرَ مما يثاب على الواجب.
النتيجة الرابعة: حمل الألفاظ المتضمنة للفظ الفرض والواجب والواردة في الأحاديث والآثار على المعنى الاصطلاحي، كما سيتي في ثمرة الخلاف.
النتيجة الخامسة: أن الزيادة على النص نسخ عند الحنفية، والنص عندهم هو الكتاب والسنة المتواترة، وأما الآحاد فالزيادة عليها مقبولة عندهم. ولذا تجد أن الفرائض عندهم لا تقبل نسخا ولا تخصيصا بخلاف أدلة الواجبات.
المطلب الثاني: الأثر الخلاف في الفروع الفقهية
ينبني على هذه المسألة خلاف كبير بين القائلين بالتفريق والقائلين بالترادف الاصطلاحي بين الفرض والواجب، ومن المناسب أن نستعرض نماذج لتلك المسائل لنرى كيفية استدلال الحنفية بالوجوب وردهم للفرضية.
المسألة الأولى: سجود التلاوة
استدل الجمهور على عدم وجوب سجود التلاوة بما صح عن عمر رضي الله عنه أنه: "قرأ يوم الجمعة على المنبر بسورة النحل، حتى إذا جاء السجدة نزل فسجد وسجد الناس، حتى إذا كان الجمعة القابلة قرأ بها، حتى إذا جاء السجدة قال: أيها الناس، إنا نمر بالسجود، فمن سجد فقد أصاب، ومن لم يسجد فلا إثم عليه؛ ولم يسجد عمر رضي الله عنه". وزاد نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما: "إن الله لم يفرض السجود إلا أن نشاء".
وأما الحنفية القائلون بالوجوب فقد سلكوا في ذلك منهجهم في التفريق بين الفرض والواجب، بأن نفي الفرض لا يستلزم نفي الوجوب.
المسألة الثانية: صلاة الوتر
استدل الجمهور القائلون بعدم وجوب صلاة الوتر بحديث عليّ—رضي الله عنه—يرفعه إلى رسول الله—صلى الله عليه وسلم—قال: "الوتر ليس بحتم كصلاتكم المكتوبة ولكن رسول الله—صلى الله عليه وسلم—قال: إن الله وتر يحب الوتر، فأوتروا يا أهل القرآن". وحديث ابن عمر—رضي الله عنهما—قال: "كان النبي—صلى الله عليه وسلم—يصلي في السفر على راحلته حيث توجهت يؤمئ إيماءة صلاة الليل إلاّ الفرائض، ويوتر على راحلته".
قال الحافظ ابن حجر معلقاً على هذا الحديث: (واستدل به على أن الوتر ليس بفرض). نقل ابن المنذر وغيره الإجماع على ذلك، وتقدم أن الحنفية يرونه واجبا لا فرضا. وقال الحافظ ابن حجر: (وأجاب من ادعى وجوب الوتر من الحنفية بأن الفرض عندهم غير الواجب، فلا يلزم من نفي الفرض نفي الواجب، وهذا يتوقف على أن ابن عمر كان يفرِّق بين الفرض والواجب، وقد بالغ الشيخ أبوحامد فادّعى أن أبا حنيفة انفرد بوجوب الوتر، ولم يوافقه صاحباه، مع أن ابن أبي شيبة أخرج عن سعيد بن المسبب، وأبي عبيدة بن عبدالله بن مسعود، والضحاك ما يدل على وجوبه عندهم. ونقله ابن العربي عن أصيغ من المالكية ووافقه سحنون، وكأنه أخذه من قول مالك: من تركه أدِّب، وكان جرحه في شهادته).
المسألة الثالثة: الأضحية
ذهب الجمهور إلى سنية الأضحية، وعند الحنفية: الأضحية واجبة وليست بفرض. لأنها ثبتت بدليل ظني وهو ما ورد عن أبي هريرة قال: "قال رسول اللّه—صلى اللّه عليه وآله وسلم—من وجد سعة فلم يضح، فلا يقربن مصلانا". رواه أحمد وابن ماجه.
المسألة الرابعة: بعض الأفعال والأقوال في الصلاة
ذهب الحنفية إلى عدم ركنية تكبيرة الإحرام، والتسليم من الصلاة، والرفع من الركوع والرفع من السجود، والطمأنينة في الصلاة فهي عندهم من الواجبات لا من الأركان، لأنها ثبتت بأدلة ظنية. وأما الجمهور فكل ما تقدم يعد من الأركان فتبطل الصلاة بتركها عمدا أو سهوا. وتفصيلها في كتب الفروع.
المطلب الثالث: هل التفريق مستعمل في كتب الجمهور
يلاحظ أنّ الجمهور، مع أنهم يردون التفريق بين الفرض والواجب، إلا أننا نجدهم يفرقون في بعض المواطن.
قال الزركشي في البحر المحيط: وَقَدْ فَرَّقَ أَصْحَابُنَا بَيْنَ الْوَاجِبِ وَالْفَرْضِ فِي بَابِ الصَّلَاةِ فَسَمَّوْا الْفَرْضَ رُكْنًا، وَالْوَاجِبَ شَرْطًا مَعَ اشْتِرَاكِهِمَا فِي أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهُ، وَفِي بَابِ الْحَجِّ حَيْثُ قَالُوا: الْوَاجِبُ مَا يُجْبَرُ تَرْكُهُ بِدَمٍ، وَالرُّكْنُ مَا لَا يُجْبَرُ، وَهَذَا لَيْسَ فِي الْحَقِيقَةِ فَرْقًا يَرْجِعُ إلَى مَعْنًى تَخْتَلِفُ الذَّوَاتُ بِحَسَبِهِ، وَإِنَّمَا هِيَ أَوْضَاعٌ نُصِبَتْ لِلْبَيَانِ.
حَكَى الرَّافِعِيُّ عَنْ الْعَبَّادِيِّ فِيمَنْ قَالَ: "الطَّلَاقُ وَاجِبٌ عَلَيَّ"، تَطْلُقُ. أَوْ فَرْضٌ، لَا تَطْلُقُ، وَلَيْسَ هَذَا بِمُنَافٍ لِلتَّرَادُفِ، بَلْ لِأَنَّ الْعُرْفَ اقْتَضَى ذَلِكَ، وَهُوَ أَمْرٌ خَارِجٌ عَنْ مَفْهُومِ اللُّغَةِ الْمَهْجُورِ.
وقال الطوفي: الذي نصره كثير من الأصوليين أن الواجب مرادف للفرض، لكن أحكام الفروع قد بنيت على الفرق بينهما، فإن الفقهاء ذكروا أن الصلاة مشتملة على فروض وواجبات ومسنونات، وأرادوا بالفروض الأركان وحكمهما مختلف من وجهين:
الأول: أن طريق الفرض منها أقوى من طريق الواجب.
الثاني: أن الواجب يجبر إذا ترك نسيانا بسجود السهو، والفرض لا يقبل الجبر، وكذا الكلام في فروض الحج وواجباته، حيث جبرت بالدم دون الأركان.
الخاتمة
وبعد هذا البحث الأصولي الممتع للباحث، وأملي أن يشارك القارئ الكريم في المتعة والفائدة، والذي حوى حوارات علمية بين من يفرق بين الفرض والواجب ومن يرى أنهما بمعنى واحد، نجد أننا بحاجة إلى عرض أهم نتائج البحث، وهي:
1. أهمية تحرير المصطلحات الشرعية، وتبيين ارتباطها بالمعاني اللغوية.
2. أن الدلالة اللغوية للفرض مختلفة عن دلالة الواجب، وقد تتفق معه في قليل من الصور.
3. أن اختلاف علماء الأصول في تعريف الواجب راجع إلى الطريقة المستعملة في التعريف، فمنهم من عرفه بالحد ومنهم من عرفه بالرسم.
4. أن الجمهور المرجحين للترادف الاصطلاحي للفرض والواجب، احتجوا بنصوص مرفوعة وأقوال الصحابة والتي يظهر منها عدم التفريق بنهما.
5. أن المنصوص عن أحمد أنه يفرق بين الفرض والواجب، وقد لا يكون بالضرورة كتفريق الحنفية، ولكنه يفرق في الجملة.
6. أن من فرق بين المصطلحين رجع إلى الدلالة اللغوية، وإلى عدم التنازع في تفوت المأمورات اللازمة في القوة، فالتفريق حاصل أصلا، وإن حصل التنازع في المصطلح.
7. أن الفرض والواجب متفقان على إلزام العمل بهما وإثم من تركهما بلا عذر إجماعا.
8. للخلاف ثمرة في الأصول، من جهة تكفير من أنكر الفرض دون من أنكر الواجب، ولها أوجه أخرى.
9. أن للخلاف ثمرة في الفروع، ذكر منها بعض المسائل في موضعها من البحث.
10. رأينا أن استعمال التفريق موجود عند من نفي الفرق، وذلك في كتب الفروع مما يقوي التفريق بين المصطلحين.
منقول عن: عبد العزيز بن سعد، من ملتقى الله الحديث
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق