الشريعة والدستور: مقارنة، المادة ٢، هوية الدولة، وجدول بياني مبسّط للقضية
’الشريعة‘ كلمة مرادفة لكلمة ’الدستور‘. والدستور هو منظومة أو مجموعة منظمة من المبادئ الأساسية والقواعد (القوانين) التي بموجبها تُحكم دولة، أمّة، شركة، أو ما شابه ذلك. أي أن الدستور، عند الدول العَالَمَانية والأمم غير المسلمة، هو الشريعة عند المسلمين.
المادة ٢ من الدستور المصري، حتى تاريخ ١١ إبريل ٢٠١٢، تنص على أن ’الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع‘. هناك القليل من الأقباط وبعض الليبراليين والعَالَمَانيين ممن يريدون أن يتلاعبوا لفظياً في هذه المادة، وهم يظنون—عن جهل، مثلهم مثل الكثير من المسلمين قليلي الوعي، أن هذه المادة مفيدة للمسلمين على صيغتها الحالية؛ وهؤلاء—في رأيي—مساكين، لأنهم إن عرفوا الحقيقة، لوفروا وقتهم وجهدهم، وأدركوا أن المادة بصيغتها الحالية رمزية فقط ولا تعني شيئاً على الإطلاق بالنسبة إلى عُمق الهوية الإسلامية، وبالتالي لضحكوا وفرحوا، ثم لانضموا إلى النخبة التي تؤكد للشعب أن هوية مِصْر سياسياً وقانونياً بالفعل إسلامية—وهو تضليل ووهم كاذب.
وكي نفهم مشكلة المسلمين ذوي الوعي مع صيغة هذه المادة، ونفهم أهمية تطبيق الشريعة الإسلامية، وفقط للتسهيل والتبسيط، سوف نقسم الدستور أو الشريعة إلى ثلاثة أقسام، وسنسميهم جزافاً: الأساس، والقواعد، والحماية. ومرة أخرى، هذا ليس تقسيم أكاديمي قانوني، وإنما تقسيم مبسّط لشرح القضية الشديدة الأهمية.
الأساس يتمثل فيما يُطلق عليه اسم أو مصطلح ال’مبادئ‘. في العلوم الإسلامية، لا يوجد أصلاً شيء اسمه ’مبادئ الشريعة‘! تخيل؟! المادة ٢ تشير إلى شيء لا وجود له من الأصل. إذن فما الذي كان يعنيه من صاغ وشرع هذه المادة عندما أشار إلى ’مبادئ الشريعة الإسلامية‘؟ هو كان يشير إلى المبادئ الأساسية العامة للإسلام، وأمثلتها هي حفظ النفس، وحفظ المال، والمساواة وإلى آخره. أي أن المادة ٢ تشير إلى مجموعة المبادئ العامة، التي تتفق عليها كل أديان الأرض، بل وحتى المجتمعات اللا دينية، وهي ببساطة المبادئ الإنسانية. وبالتالي، المبادئ المستخدمة لا تعطي هوية إسلامية مميزة، بل تعطي هوية إنسانية؛ بدونها لا نصبح آدميين من الأصل—دعك من مسلمين.
أما القواعد فتتمثل في مجموعة القوانين التي تحكم الدولة باستثناء القوانين المتعلقة بالجرائم. أي القواعد المتبعة هي ببساطة ’قانون الدولة‘، والمصطلح الإسلامي لها هو ’الأحكام‘. أمثلة للقوانين الوضعية في الدولة العَالَمَانية هي قانون الطوارئ والقانون التجاري وإلى آخره. أمثلة لأحكام الشريعة في الدولة الإسلامية هي تحريم الربا أو حظر التعامل بالفوائد في المعاملات المالية، وحظر بيع الخمر، وعدم حظر المواطنين من البيات في أي مسجد بصورة مؤقتة.
أما الحماية فهي متمثلة في قانون العقوبات، والمصطلح الإسلامي لها هو ’الحدود‘. أي أن قانون العقوبات أو الحدود هي التي تتعامل مع الجرائم والمجرمين في المجتمع. أمثلة من قانون العقوبات الوضعي في الدولة العَالَمَانية هي السجن والإعدام. أمثلة من الحدود في الشريعة الإسلامية هي الجلد والرجم.
الدستور المصري الحالي يستخدم المبادئ الإنسانية العالمية، والتي تتفق مع مبادئ الإسلام بالتأكيد، كأساس. ولكن في نفس الوقت، الدستور الحالي هو دستور وضعي عَالَمَاني المرجعية وفرنسي الأصل، فالأحكام الإسلامية لا يطبق منها إلا أقل القليل، والحدود الإسلامية لا تطبق على الإطلاق. المبادئ هي أشبه بأساس المبنى أو العمارة. قانون الدولة أو الأحكام هي أشبه بالبيت أو المبنى نفسه الذي يُبنى على الأساس. أما قانون العقوبات أو الحدود فهي أشبه بالسُور الذي يُقام حول المبنى لحمايته.
الأساس تحت الأرض، والسور يكاد يُخفي ما خلفه، والاثنين حجمهما صغير مقارنة بالمبنى نفسه، الذي يُعتبر الهيكل والكُتلة الأساسية في هذه الصورة؛ وبناءً عليه، فهوية الدولة لا يمكن أن تتمثل في المبادئ—التي لن تميزها عن أي دولة أخرى، ولا تتمثل في الحدود أو العقوبات—التي لا تُستخدم كثيراً من الأصل في مجتمع سليم وعادل، وإنما تتمثل هوية الدولة في الأحكام والقوانين الرئيسية! وبناءً على هذا، يمكننا بسهولة استنتاج أن هوية دولة مِصْر السياسية والقانونية ليست إسلامية على الإطلاق، بل هي هوية عالَمَانية غربية؛ وقبل أن يحتج أي شخص لا يقرأ بدقة، نضيف أن هوية مصر الاجتماعية هي هوية إسلامية، ولكنها تُقمع، وتتآكل عاماً بعد عام تحت سُلطان الهوية السياسية الغير إسلامية وإجبار الهوية القانونية العَالَمَانية.
ما ألاحظه هو أن أغلب المسلمين المعتدلين لا يسعون إلى تطبيق الحدود الإسلامية فوراً في ظل الفقر المتفشي والجهل العام بالدين في المجتمع (ولنا في إرجاء عمر بن الخطاب لحدّ السرقة عام المجاعة عبرة)، [ملحوظة: بعد كتابتي لهذه المقالة أو البحث القصير بأكثر من عام، اكتشفت أن هذا الفِكر، والذي يتلخص في التطبيق المتدرج للشريعة الإسلامية، هو فكر فاسد ولا يجوز لأي مسلم، بالذات العامل في السياسة، أن يؤمن به أو يعمل به؛ بل إن ما حدث للحكومة الإسلامية في مصر بأغلبية من الإخوان المسلمين ورئاسة الدكتور محمد مُرسي، من خيانة قيادات العسكر للحكومة والشرعية، والانقلاب على الحكومة المنتخبة بالأغلبية، كل هذا قد يكون سببه هو فساد العمل السياسي في تلك الفترة بهذا التدرج الذي يهين شريعة الله ويبدلها بقوانين وضعية، ولو ليوم واحد. نعم، كان هناك تآمر ومكائد وخيانة، ولكن الله كان ليدافع عن المشروع الإسلامي بكيده هو إن كنا نستحق؛ ولكن الهزيمة جاءت بذنوبنا: {قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ}—آل عمران: ٦٥. راجع سلسلة فيديو بعنوان ’نصرةً للشريعة‘ للدكتور إياد قنيبي لمعرفة كل التفاصيل الفقهية والأدلة على كل هذا الكلام؛ جزاه الله عنا وعن الإسلام خيراً. والآن مع بقية مقالتي].
ولكن ما يتفق عليه كل المسلمين ذوي الوعي والغيورين على دينهم، باختلاف مدارسهم الفِكرية، هو أنه لا تنازلات أبداً في مسألة تطبيق أحكام الإسلام أو القانون الإسلامي، وأن من يحاول أن يتحايل عليهم بمسألة المادة ٢ والمبادئ المُشار إليها، هو إما لا يفهم الحقائق التي ذكرتها، أو يفهمها جيداً ويتعمّد إضلال المسلمين وخديعتهم.
بالرغم من أن كلمتي الدستور والشريعة مترادفتان في المعنى، إلا أنهما بالتأكيد مختلفتان—بل وأحياناً متضادتان—في المضمون. وبناءً عليه فإننا كمسلمين لا زلنا نقول أننا نريد تطبيق أحكام الشريعة كجزء من ال’دستور‘، ويجب أن نظل نشير إليه كدستور حتى اليوم الذي يسود فيه العدل الاجتماعي والرخاء، ويقل الفساد بشدة، فنطبق الحدود أيضاً؛ [مرة أخرى، قم بشطب جملة تؤيد الفكر الفاسد المعروف بتدرج تطبيق الشريعة] وبهذا يكتمل الدستور بالمبادئ والأحكام والحدود الإسلامية، فيصبح ’شريعة‘.
ومن هذا المعنى نقول أن أهمية الدستور عند العَالَمَانيين، ومن على شاكلتهم، هي إعطاء التمكّن والتحكّم للنُخبة والصفوة؛ أما أهمية الشريعة فهي تسليم التمكّن والتحكّم إلى الله، كي لا يحكمنا النُخبة بقوانينهم بل يحكمنا الله بشرائعه. وأهمية الجزء الذي نسميه جزافاً قانون الدولة هو تحكيم النظام السياسي القانوني التابع للنُخبة والنابع منهم، سواءً أكان نظامهم اشتراكي بالأمس، عَالَمَاني اليوم، أو ليبرالي غداً؛ أما أهمية أحكام الشريعة فهي تحكيم الإسلام، أو دين الله الذي لا تتغير ثوابته أبداً، ويظل متأقلماً ومتكيفاً مع أي زمان ومكان. وأهمية قانون العقوبات الوضعي هي حماية مجتمع غير مسلم أو مجتمع لم يَحْسُن إسلامُه ولم يتمتع بالعدالة بعد؛ أما أهمية حدود الإسلام فهي حماية مجتمع مسلم يتمتع بالعدالة، وحَسُنَ إسلامه.
باختصار، الإسلام قانونه الشريعة، والنظام الوضعي قانونه الدستور. الإسلام فيه مبادئ وأحكام وحدود، وما غير الإسلام فيه مبادئ وقوانين وعقوبات. الدنيا كلها تتفق على المبادئ، وتختلف في القوانين أو الأحكام، والعقوبات أو الحدود. مصر اليوم لا تطبق غير المبادئ الإنسانية المتفق عليها، وأقل القليل من الأحكام الإسلامية، والباقي قوانين وضعية عَالَمَانية تمثل الأغلبية المطلقة من الدستور. من يقول بغير هذا هو إما قليل الوعي أو مخادع يقصد تضليل وخديعة المسلمين. هوية الدولة لا يمكن أن تأتي من المبادئ أو العقوبات، بل من منظومة الأحكام والقوانين التي تدير شئون المجتمع والدولة. الدولة اجتماعياً مسلمة، ولكنها لا تكون سياسياً وقانونياً مسلمة إلا بتطبيق أحكام الإسلام. الأنظمة الوضعية بطبيعتها تزاحم الإسلام، ولهذا فالهوية الاجتماعية المسلمة لن تَسْلم من التآكل ومن قمع الهوية السياسية الأجنبية إلا بالأخذ بأحكام الإسلام بدلاً من القانون الوضعي. ومن أهم ما نطلبه ونحتاجه اليوم بشدة، ونسعى لتحقيقه بالنقاش الموضوعي والحُجَّة والاتفاق بين جميع طوائف الشعب—بما فيهم الأقليات عدداً، هو تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية فعلياً وكلِّياً، وتغيير المادة ٢ كي تنص على أن ’أحكام الشريعة الإسلامية المصدر الوحيد للتشريع‘، وما لا تغطيه الأحكام—مثل قوانين المرور—يقع تحت بند ’أنتم أعلم بأمر دنياكم‘ فنستنبطه ونديره تكنوقراطياً بالمنهج العلمي ذي المرجعية الإسلامية. مرجعيتنا دائماً الإسلام، وإن خرج أمر الدنيا من الأحكام.
—ياسين رُكَّه
المصادر: بحث ’تنبيه الجميع لمعنى قولهم مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع‘ للشيخ أبي عبد القدير القمري، وسلسلة فيديو بعنوان ’نصرةً للشريعة‘ للدكتور إياد قنيبي، والمقالات والخطابات والندوات المتاحة للكثير من علماء الأمة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق