وصلتني رسالة بريد إلكتروني اليوم، يبدو أن الناس تتناقلها كثيراً، بعنوان "علاء الأسواني في إحدى أهم مقالاته". والمقالة في الرسالة كانت بعنوان "الأخلاق بلا تدين أفضل من التدين بلا أخلاق". ولكني عندما بحثت عن المقالة على الإنترنت، وجدتها على موقع يبدو أنه مدونة الدكتور علاء الأسواني نفسه، وكانت بعنوان مختلف: "هل المصريون متدينون فعلاً؟".
وما لفت انتباهي في الرسالة التي وصلتني هو أن من شكّلها أو صمم الخط والألوان في محتواها يبدو أنه يقصد زرع فكرة محددة في عقل القارئ، وقد تكون أجزاء من هذه الفكرة واضحة في طريقة تشكيله لعنوان المقالة، واختياره للعنوان الذي تغير من العنوان الأصلي الذي يستخدمه الدكتور علاء في مدونته. فإن الكلمتين الأخيرتين في العنوان الذي استخدمه من شكل الرسالة الإلكترونية، "بلا أخلاق"، كان حجمهما أصغر بطريقة ملحوظة من بقية الجملة: "الأخلاق بلا تدين أفضل من التدين"، وكأن الشخص الذي شكل الرسالة الإلكترونية يريد أن يفصل بين الجزئين في العقل الباطن للقارئ، فيغير معنى المقالة من المعنى المخصوص الذي استخدمه الدكتور علاء إلى معنى ورسالة أخرى، وهي أن الأخلاق أفضل من الدين! والصورة التالية التي أخذتها كما هي من الرسالة الإلكترونية توضح ما أقصده بطريقة مرئية:
وبعد الانتهاء من هذه الملاحظة عن الرسالة التي يتناقلها الناس، أريد أن أضيف بعض التعليقات على المقالة نفسها. الدكتور علاء أديب يحترمه ويقدر فنه في الكتابة الكثير من الناس، ولكني كنت أفضل أن يستخدم كلمة غير كلمة "التدين" في مقالته، حتى لا يأخذها بعض الناس، بالذات من الجهال والعَلَمانيين، خارج سياقها، وحتى لا يستخدمها بعض الأفراد كما استخدمها الشخص الذي غير عنوان المقالة بل وغير حجم الكلمات وهو ينشرها على الإنترنت كما هو موضح أعلاه.
كنت أفضل أن يعالج الأستاذ علاء كلمة التدين نفسها قبل أن يشرع في استخدامها. أدرك أنه شَرَح ما يعنيه في المقالة، ولكني أتحدث عن معالجة محددة للكلمة نفسها، موضحاً أنه يجب أن يفهم الناس المقصود منها. فما هو معنى كلمة التدين؟ ما هو المقصود بالتدين؟ هل التدين مثلاً إقامة الشعائر الظاهرية لدين ما؟ هل هذا هو التدين؟ أم التدين هو التمسك بكل تعاليم الدين؟
إن كان التدين هو إقامة الشعائر الظاهرية فقط لأي دين، لكان يجب إثبات هذا بالأدلة والمنطق والأمثلة. أما إن كان التدين في حقيقته هو التمسك بكل تعاليم الدين، للم يصح من الأصل أن نقول أن الكاذب المنافق المرتشي البذيء السليط اللسان الغشاش الفاسد، الذي لا يغض بصره ولا يحترم حرمات الناس، ولكن يصلي ويصوم ويحج ويعتمر، هو شخص "متدين"! إن لم يكن التدين هو فقط إقامة الشعائر الظاهرية للدين، بل العمل بكل تعاليم الدين، للم يصح أو يجوز أن نقول على أي شخص أخلاقه ضد الأخلاق التي يدعو إليها الدين ولكنه يصلي أنه شخص متدين.
كان يجب أن تُعالج هذه الكلمة، وبعد معالجتها، كان يمكن أن نرى أنه من الأولى استخدام مصطلح أو تعبير آخر، مثل "إن الأخلاق بلا شعائر دينية ظاهرية أفضل من إقامة الشعائر الظاهرية وإضاعة الأخلاق أو الخلق الحسن". ووقتها لو انتقد شخص هذا الكلام، لكان يمكن أن نستشهد بالأحاديث الصحيحة التالية: "ما من شيء أثقل في الميزان من حسن الخلق"؛ "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه". صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإن جادل أحدهم بأهمية الصلاة دوناً عن أي شعائر أخرى، لوافقنا على أهمية عدم إضاعة الصلاة أو تفويت وقتها على أي شيء آخر للمسلم، ولكن يجب أن يعي المسلم أن الصلاة قد لا تكون مقبولة من الأصل إن لم يتحلى الشخص بالخلق الذي يجعله فعلاً في صلاة بدلاً من أن يكون ببساطة ينقر رأسه على الأرض ويحرك جسده فقط، ولقلنا أيضاً أن بعد الصلاة لا يوجد أي عبادة أخرى أهم من الخلق الحسن والتخلق بأخلاق الرسول عليه الصلاة والسلام، والذي بعث رحمة للعالمين، بشهادة الحديث الصحيح نفسه أن حُسْن الخلق أثقل شيء في ميزاننا يوم القيامة.
على الجانب الآخر، إن أراد شخص ما، بالذات العَلَماني أو الجاهل، أن يستخدم هذا الكلام كي يبرر ترك الشعائر الدينية تماماً والاكتفاء بالأخلاق الحسنة، لقلنا أن هذا لا يصح ولن ينفع المسلم يوم القيامة، على الأقل وبالذات عندما يتعلق الأمر بالصلاة على وقتها خمس مرات في اليوم للمسلم، بشهادة الحديث الصحيح: "أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة، فإن صلحت صلح له سائر عمله، وإن فسدت فسد سائر عمله"؛ وهو نفس الحديث الذي يمكن أن نستشهد به على أهمية "صلاح" الصلاة، لأنها إن فسدت بسوء الخلق والطمع والجشع وتشرب القلب للذنوب والمعاصي، وكلها أشياء تجعل قلوبنا جافة عاصية لا تعي شيئاً من حقيقة ما نقرأه أو يُقرأ علينا من آيات وأدعية أثناء الصلاة أو خارجها، إن فسدت صلاتنا بتشرب قلوبنا للذنوب والقسوة وسوء الخلق لفسد سائر عملنا وخسرنا يوم القيامة.
فإن كان المرء مسلماً، كان عليه أن يعي جيداً أن هذا الدين، دين الإسلام، ليس متوافقاً ولا ملائماً للاستهبال أو الاستعباط أو الفَهْلوة أو أسلوب "مَشِّي حالك" أو "كلّه بينفع"، ولا ينفع فيه—في الإسلام—أسلوب الانتقاء وكأن المرء يختار ما يطيب له من قائمة طعام في كافيتيريا، وهذا مصطلح يستخدمه بعض الغربيون أنفسهم: cafeteria bible أو كافيتيريا الإنجيل، فما بالك بالإسلام؟ وخير شاهد هو ما ذكرناه: أول شيء يحاسب عليه المرء هو الصلاة، كشعيرة دينية، ولكنها في نفس الوقت شعيرة قد لا تُقبل أو تصح على الإطلاق إن لم يكن قلب المسلم سليم، والقلب السليم من الخلق السليم. وفي الحديث الصحيح: "ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد ألا وهي القلب". يعني كله مرتبط ببعضه، ولا مفر من أن ندخل في الإسلام كافّة، بكليته كأسلوب للحياة. يعني صلاة على وقتها بجانب حسن الخلق، والاختيار ما بين الصلاة وشيء طارئ جداً يستلزم مشورة أهل العلم: "فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون"، وللمرء أن يستفتي قلبه إن لم يستطع أن يستشير أهل العلم، على أن يستشير أهل العلم على وجه الأهمية والأولوية والسرعة بعد الانتهاء من الشيء الطارئ حتى لا يتكرر الاختيار للأهم بجهل بأوامر الله وهو أعلم بالخير لنا وللعالمين.
في نهاية المقال، يوجد أيضاً رسالة استغربتها بعض الشيء، تُعطى للقارئ، وهي تتلخص في جملة "الديمقراطية هي الحل". وإني لا أتفق مع هذه الجملة، وفي نفس الوقت لا أقول أن الإسلام هو الحل مثلاً، على الأقل ليس قبل معالجة كلمة الإسلام نفسها في هذا السياق وشرحها شرحاً مفصلاً للناس، ومنهم كثير جاهلون ومستهبلون. لا أعتقد أن الحل هو الديمقراطية، وإلا لفلحت دولة مثل أمريكا، تتمتع بديمقراطية مثالية، أو على الأقل تدّعي هذا، والحقيقة هي أن البنك المركزي في الدولة، والذي يطبع نقود الدولة ويُقْرِض حكومتها بالفوائد، هو هيئة خاصة ملك لعائلات محددة، وليس هيئة حكومية! نعم، البنك المركزي في أغلب دول العالم، بما فيها الولايات المتحدة، هو هيئة خاصة يملكها عائلات محددة. والانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة تعتمد على غسل مخ الشعب والاحتيال عليه بل والكذب عليه حتى يختار رئيساً محدداً. وطبق نفس هذا الكلام على تقريباً كل الدول الغربية الأخرى. فإن كانت الديمقراطية هي الحل، لفلحت تلك الدول، ولكن هذه الدول نجاحها نجاح ظاهري فقط، وحتى نجاحها الاقتصادي قائم على دماء الشعوب وظلم الأقليات وهوة تتسع كل عام بين الطبقة الغنية والطبقة المتوسطة، ناهيك عن الطبقة الفقيرة.
الحل في اتباع أوامر الله كلها، بدءً بأنفسنا. فمثلاً، البلد القذرة حالها هكذا لأن كل شخص يقول: "وهُوَّه يعني، قطعة المهملات البسيطة هذه التي ألقيها أنا هي التي ستوسخ البلد؟!" عندما يقول هذه الجملة مليون شخص، فبالفعل البلد تتحول إلى مقلب قمامة. أما إن قال كل شخص: "أبدأ بنفسي فأفعل ما يأمرني به الله"، لوجدنا مليون مواطن مثلاً لا يلقي القمامة في الشوارع، بل ويفعل الكثير من الخير الآخر عملاً بالحديث الحسن: "إن الله تعالى طيب يحب الطيب، نظيف يحب النظافة، كريم يحب الكرم، جواد يحب الجود"، فنجد الكثير من النظافة والطيبة والكرم في بلادنا، وفي خلال أيام معدودة، ليس أعوام!
حقيقة، إن أردت أن أعالج "الحلّ" معالجة مختصرة وبسيطة أيما بساطة، لقلت أن هذا هو الحل: أن نطيع الله في كل أوامره ونواهيه، ونتبع النموذج الذي تركته لنا رسله سبحانه وتعالى، فنستأسى بهم. وكفى.
وفي النهاية، أذكر القارئ أن المقالة التي أعلق عليها هي مقالة هل المصريون متدينون فعلاً؟ بقلم الأديب الدكتور علاء الأسواني، ويتناقلها بعض الناس بعنوان "علاء الأسواني في إحدى أهم مقالاته" أو "الأخلاق بلا تدين أفضل من التدين بلا أخلاق"، ويحاول بعضهم باستخدام أساليب في التشكيل والألوان أن يزرع في العقل الباطن للقارئ بذرة للفكر العَلَماني بأن الأخلاق بلا تدين أفضل من التدين، وهو فكر فاسد أثبت فساده في مختلف أنحاء العالم، لأنه وإن أدى إلى عدالة اجتماعية ظاهرة لفترات محدودة في بعض الدول، إلا أنه يثبت فساده على المدى البعيد بعد أن تنكشف قدرة علية القوم والسياسيين والحكام على استخدام هذا الفكر في استعباد الشعوب بالضرائب والديون الربوية والخوف من فقدان بيوتهم وأراضيهم. وهذا لأن هؤلاء العلية من القوم لا يرون أنهم يؤذون الناس، بل إنهم يوفرون لهم الترفيه والرفاهية والألعاب والخدمات الحكومية الجيدة والعدالة الاجتماعية الظاهرية، وهي كلها أشياء لا تتعارض مع "الأخلاق" التي يدعو لها العَلَمانيون في شيء، ولكن في نفس الوقت إنهم يمصون دماء شعوبهم ويحتكرون التجارات والموارد ويتلاعبون في البورصة وغيرها من الأسواق كي يحصلون على الأرباح القصوى لأنفسهم كأفراد وعائلات محددة وقليلة، على حساب الشعب...وهذا لا يتعارض مع "الأخلاق" التي يدعون هم لها ويعلمونها لمن يصدقهم من العَلَمانيين، ولكنها تتعارض بالتأكيد مع تعاليم وأوامر الله للعباد.
فالحل ليس في الديمقراطية التي يمكن لأي حكومة بسهولة شديدة اليوم أن تتلاعب فيها، وليس بالعَلَمانية أو فصل الدين عن الدولة، وليس بالأخلاق وترك الدين، وإنما الحل هو طاعة واتباع أوامر الله كلها، سواء في الأخلاق أو في المعاملات أو في الاقتصاد أو في السياسة أو في إقامة الشعائر الدينية. ولا، ليس المقصود أن نبدأ بقطع يد السارق من أول يوم، فهذا لم يكن منهج الرسول عليه الصلاة والسلام، ولا منهج تربية الله سبحانه وتعالى للمسلمين الأوائل من الصحابة. وإنما المقصود هو إقامة الأساسيات أولاً، اتباع كل أوامر الله التي تتعلق مباشرة بإعطاء الناس حقوقهم وضمان حرياتهم وسلامة ممتلكاتهم بالذات البيوت والأراضي، وتتعلق بحسن الخلق بين الناس وبعضهم، وحريتهم في إقامة شعائرهم بأمان، وتربية الناس على حسن النقاش والتخاطب وتوصيل الرسالة، ووضع شروط عادلة قبل إعطاء أي شخص منبر أو ميكروفون الخطابة في الناس، شروط تتعلق بالاعتدال والأدب والموضوعية واحترام المقدسات حتى وإن اختلف الرأي، وليس بفكر محدد، وإقامة نظام متكامل في أي أرض أو دولة يكون قائماً على أوامر الله كلها، ثم خطوة بخطوة، وبعد أن يتعود الناس على عادات جديدة قائمة على طاعة الله، نبدأ في التقدم والدخول في تفاصيل أخرى لأوامره، سواء تفاصيل سياسية أو قانونية تشريعية أو اقتصادية وهكذا. أسأل الله أن يرزقنا جميعاً الحكمة والبصيرة، وأن يهدينا إلى الحق ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق