ملخص المقالة:
هذه الصورة متاحة لمن أراد أن يستخدمها على صفحته الإعلامية، وما أعرفه هو أن هذا الرمز لا يجوز للمسلم وضعه أو إظهاره على جسده أو ملابسه، ولا يجوز أن يضعه على حوائط منزله كمسلم. أما الاستخدام الذي لم أجد دليلاً على تحريمه فهو على صفحات إعلامية وما شابه من أجل إظهار الترابط والتراحم والوحدة ما بين المسلمين والأقباط في أوقات الفتن الشديدة والخطيرة التي نعيشها.تحديث: يمكن للقارئ أن يقرأ أيضاً فتوى من عالم دين في هذا الموضوع أجيب عنها في قسم اسألوا أهل الذكر في موقع أون إسلام.
- أوافق على اتقاء الشبهات أو المشتبهات في الأوقات العادية، ولكننا في أوقات استثنائية عصيبة فهناك أولويات.
- الحلال بيّن والحرام بيّن، فإن كان الشيء حكمه حرام لكان الحكم شديد الوضوح لا خلاف عليه.
- الأحاديث التي أتت في شكل الصليب تشير إلى وضعه في البيوت أو الملابس أو الجسد، وهو ليس الاستخدام الإعلامي الموجود هنا.
- إظهار شعار أو راية أو عَلَم دولة مثلاً لا يمكن أن يعني الاعتراف بسياسة أو فِكْر الدولة، ونفس الشيء ينطبق على الإظهار الإعلامي أو الأكاديمي للرموز الدينية.
- بعض المسيحيين في العالم لا يؤمنون بألوهية المسيح عليه السلام وينظرون إلى الصليب من منظورات أو وجهات نظر مختلفة، ويوجد نظريات مختلفة للباحثين في نشأة الصليب كرمز، فلا يصح أن يصرّ أحد على أي استنتاجات أو معاني محددة له.
- حادثة أو قضية الصلب نفسها ليست من أولويات الدعوة أو الجدال بالتي هي أحسن، بل هناك قضايا عقائدية أهم بكثير، ومرة أخرى لا يصح أن يصرّ أحد على ربط أي معنى محدد بالرمز.
- كمسلم، عندما تفكر في الصليب، حاول أن تطبق عليه ما تطبقه على الهلال من قواعد وشروط ومنظور رؤية، سيساعدك هذا على الحيادية والعدل والوسطية والعملية بدلاً من الاتباع الأعمى للعاطفة.
- التطبيع هو التَطَبُّع بطباع دولة أو أمة أخرى، وهذا لا يمت بصلة لإظهار رمز أمة مع رمز أمة أخرى في تعاون أو ترابط ما.
- كما ذكرنا، الاستخدام المسموح هو استخدام إعلامي وأكاديمي وما شابه.
- إن هذا وقت تضامن وتآلف وتراحم وحب، وليس وقت جدل في أشياء تقع في قاع أولويات الأمة والبلد.
- لقد أوصى الرسول عليه الصلاة والسلام بالمصريين، مسلمين وأقباط، خيراً وأشار إلي المصريين كلهم بقبط مصر. وهذا غير ميثاقه وعهده لنصارى الأرض كلهم في مغاربها ومشارقها، وهذه بعض كلمات ميثاقه: "ولا يُجَادَلُوا إلاّ بالتى هى أحسن، ويُحْفَظ (ويُخْفَض) لهم جناح الرحمة، ويُكَفّ عنهم أذى المكروه حيث ما كانوا وحيث ما حلوا. ويُعَاوَنُوا على مرمّة بيعهم وصوامعهم ويكون ذلك معونة لهم على دينهم وفعالهم بالعهد." ومِرَمَّة بكسر الميم الأولى أي متاع، أي كل ما يُنتفع به ويأتي عليه الفناء في الدنيا، أي يُعاون النصارى على متاع صوامعهم التي يتعبدون فيها فيكون ذلك معونة لهم على دينهم. اقرأ الكلمات إن كنت مسلماً وتفكر في معانيها جيداً حتى تعرف كيف أمرك الرسول عليه الصلاة والسلام أن تتعامل مع النصارى كلهم، وبالأخص المصريين.
- بسم الله الرحمن الرحيم: {لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ۖ ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ۚ ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون} صدق الله العظيم. سورة المائدة: ٨٢.
المقالة وتفاصيلها:
أَتَفَهَّم الرأي القائل بأن إظهار رمز الصليب لا يجوز للمسلم في أي حال من الأحوال اتقاءً للشبهات، وناقشت بالفعل من قبل الأحاديث الشريفة التي يستخدمها كل من أراد أن يثبت صحة هذا الرأي، ولكني لا أوافق على هذا الرأي الآن، في هذه الفترة. وفي مقالي هذا أناقش هذه القضية من عدة جوانب، وأعلق على النقاط التي يستخدمها البعض في محاولات إثبات صحّة رأيهم.في الظروف العادية قد أحبّ أن أؤيد فكرة إتقاء الشبهات، ولكني في نفس الوقت لا أوافق على الاتباع الأعمى لبعض التعاليم الشكلية والتي لا تمس العقيدة بطريقة مباشرة، ولهذا فقد أرحب بالاستثناءات في أوقات الشدة. والخليفة عمر بن الخطاب نفسه أوقف شريعة قطع اليدّ لفترة محدودة في وقت كانت الأمة تعاني فيه من المجاعة، فإني لا أرى ضرراً في أن أعبر عن تضامني مع جيراني الأقباط في الوطن بوضع رمزهم بجانب رمزنا، أو بمعنى أدق، بإظهار الهلال محتضناً ومحتوياً الصليب، خاصة في وقت مثل هذا. والأهم هو أني لم أجد ولم أسمع دليلاً شرعياً قاطعاً يمكن ربطه مباشرة بالرمز المُسْتخدم وبطريقة استخدامه وأماكن إظهاره.
الحلال بيّن والحرام بيّن. ومن الحِكَم التي قد نأخذها من هذه الكلمات من الحديث الصحيح هو أنّ الشيء إن كان حراماً، أي إن كان حكم الشيء بالتحديد وبالتصنيف الفقهي: "حرام"، فيبدو أنه في كلّ الأحوال سيكون هذا الحكم، ستكون حرمانيته، بيّنة...شديدة الوضوح. وبناءً عليه، قد نقول أنه إذا اختلف عالمان إو إمامان على شيء، لكان من المحال أن يكون حكم هذا الشيء حرام؛ قد يكون مكروهاً مثلاً، ولكن ليس حراماً، لأن الحرام يجب أن يكون شديد الوضوح في حرمانيته، فلا يختلف عليه عالمان أو—في بعض الأحيان—عاقلان.
وسأبدأ بأسهل نقطة في هذه القضية، وهي التعليق على كلام من يذكر الحديث الذي يشير فيه الرسول عليه الصلاة والسلام إلى صليب من ذهب، على صدر الصحابي المدعو عَدِيّ، بكلمة "وثن"، والتعليق على ذكر الأحاديث الأخرى التي تدل على تحريم وضع الصليب بأي شكل من الأشكال في منزل المسلم. بخصوص الإشارة إلى الصليب على صدر عَدِيّ، فمن المعروف أن نحت التماثيل محرم في الإسلام، فالرسول عليه الصلاة والسلام قال هذا الكلام لأن الصليب في هذه الحالة صُنِعَ من مادة ثمينة وهي الذهب، ونُحِتَ كنحت التماثيل، وعُلِّق على الصدر بطريقة تُعَظِّم وتُقَدِّس الصليب، وبناءً على كل هذا، فبالتأكيد لا يختلف مسلمان عاقلان وواعيان على تحريم هذا على المسلم. وإننا في أمسّ الحاجة اليوم كأمة، سواء العلماء منا أو العوام وطلاب العلم، أن نسأل أنفسنا: ما هو الهدف من هذا التشريع أو ذاك النهي؟ وحبذا لو نسأل أنفسنا أيضاً بعد كل درس وكل معلومة جديدة نسمعها: ما هي أهداف ديني وأهداف عقيدتي وأهداف رسالة الإسلام نفسها وماذا كانت أهداف رسول الله عليه الصلاة والسلام؟ وهل ما أصدقه الآن وما أقوله وما أدعو إليه وما أفعله يساعد بالفعل هذه الأهداف أم لا؟ وبناءً عليه، فإن من حكمة الحديث الذي أناقشه الآن هو ألا يتعلق قلب المسلم بأي شيء جماد ولا يقدس أو يعظم أي شيء مثل هذا، بل يتعلق قلبه فقط بالله تعالى، الذي لم يكن له كفواً أحد. أي ببساطة: لا تقديس لأي شيء جماد أو لأي صورة، لا للأوثان ولا لأي شيء يمكن أن يتحول إلى وثن مع مرور الأعوام والأجيال. وبناءً عليه، فهل يصح أن نستشهد بهذا الحديث أو نربطه بالتطبيق الذي يتلخص في "احتواء الهلال للصليب على صفحات إعلامية تدعو إلى الوحدة والترابط والتراحم"؟ بل هل يوجد علاقة من الأصل بين ذاك الحديث وهذا التطبيق؟ أسأل الله أن تكون الإجابة واضحة لكل مسلم عاقل ويتفكر كما أمره الله أن يتفكر.
أما بخصوص الأحاديث التي تشير إلى تحريم وضع الصليب أو إظهاره بأي شكل من الأشكال في منزل المسلم، وهذا واضح تماماً أنه يقع تحت بند التشبه بقوم غير مسلمين، وهو المعروف بأنه حرام، فمرة أخرى، إني لا أجد أي علاقة لهذا بالتطبيق الذي يتلخص في الرمز أعلاه، الهلال يحتضن الصليب في وقت الشدة. كيف أتشبه بالمسيحيين وأنا أُظْهِر الهلال كرمز أمتي، يحتوي ويحتضن الصليب كرمز أمتهم، على صفحة إعلامية للدعوة إلى الوحدة والترابط والتراحم؟
ويحضرني هنا ترديد بعض الإخوة لكلمة "التطبيع"، فيقولون لا للتطبيع مع المسيحية ولن نطبع ديننا مع أي دين آخر، ولهؤلاء أقول: هل تعرف أصلاً ما هو التطبيع؟ ماذا نعني بالتطبيع مع إسرائيل أو التطبيع مع دين آخر؟ التطبيع بمعنى التَطَبُّع بطباع دولة أو ثقافة أو ديانة أخرى، فتصبح طباعنا وطباعهم واحدة ونأخذ نحن منهم طباعهم. وبناءً عليه السؤال يفرض نفسه: عندما أظهرت رمز الهلال وهو يحتضن الصليب في وقت الشدة، هل أنت بذلك تطبعت بطباع أمة الصليب؟ هل أنت بهذا تخلّيت عن مبادئ دينك وتبنّيت مبادئ دين آخر؟ وأفضل سؤال في هذه النقطة، وهذا سيتطلب منك التفكير العميق: عندما وضعت الصليب بجانب الهلال، هل أنت بذلك اعترفت بصحة عقائد وأفكار أمة الصليب؟ حقاً؟ فكر.
فكر جيداً.
عندما وضعت راية أو عَلَم فنلندا بجانب عَلَم مصر في تعاون أكاديمي، أوعندما وضعت عَلَم الصين بجانب عَلَم مصر في تعاون تجاري، هل أنت بذلك اعترفت بصحة عقائد وشرائع وقوانين أمة فنلندا أو أمة الصين؟ وإن وجدت من الحكمة ما يحثك على الإجابة بلا، فما هو الفرق بين هذا ووضع الصليب بجانب الهلال؟ أنّ الصليب يرمز إلى ديانة أو أمة دينية والعَلَم يرمز إلى أمة سياسية؟ وإن صح هذا، فإن كان إظهار العَلَم الصيني بجانب عَلَم بلدِك ليس معناه الاعتراف بأيّ من أفكار الصينيين، فلماذا أصبح إظهار رمز المسيحيين بجانب رمز أمتك معناه الاعتراف بأي من أفكارهم؟ سبحان الله.
ومعنى الصليب نفسه يحتاج إلى تغطية سريعة جداً في نقاش كهذا. هناك نظريات مختلفة عن حقيقة نشأة الصليب كرمز للمسيحية، وإن بعض الباحثين الغربيين يربطون الصليب برمز مفتاح الحياة الفرعوني مثلاً، أي ببعض الجذور الفكرية التي تسبق حادثة الصلب التي يختلف عليها المسلمون بالدليل القرآني مع المسيحيين. إني هنا لست بصدد مساندة أي نظرية محددة في هذا الموضوع، ولكني فقط أوضح أن هناك أكثر من نظرية في حقيقة نشأة الصليب كرمز للمسيحية. إذن فإن الإصرار على أن الصليب يعني شيء أو فكرة محددة، أو بمعنى أدق، الإصرار بأن الصليب يعني أي شيء غير الرمز للأمة المسيحية، إنما هو سلوك من التعصب، وضرب من الجهل. خاصة لأن بعض المسيحيين أنفسهم في العصر الحالي لا يؤمنون بصحّة استخدام الصليب في التعبير عن المسيحية أو الرمز لها، لأنهم ينظرون للأمر من منظور أن الصليب هو الأداة التي عُذِّب بها نبيهم كما تقول معتقداتهم، فلا يطيب لهم أن يُقَبِّلوه أو يقدسوه؛ في حين أن بعض المسيحيين ممن يقدسون الصليب يبررون هذا التقديس بالاعتقاد في أن المسيح عُذِّب ومات على الصليب كي يضحي بنفسه ويطهرهم من الذنوب، فكان الصليب أداة تطهيرهم كما تقول معتقداتهم. إذن فنظرة المسيحيين أنفسهم للصليب تختلف باختلاف كنائسهم وفهمهم للنصوص التي يؤمنون بها؛ فإنهم أمة تختلف في بعض الفرعيات وطرق الفهم وتتفق في بعض الأساسيات، مثل أمم كثيرة أخرى. كما أن بعض المسيحيين في أنحاء العالم لا يؤمنون بألوهية المسيح ولا بعقيدة الثالوث. وكل هذه أشياء يجهلها الكثير من المسلمين، بما فيهم بعض الأئمة الذين لم يخرجوا من الوطن العربي ولم يتحدثوا مع مسيحيين من مختلف البلدان والكنائس.
إذن، بغض النظر عما يفهمه أي شخص من منظوره الفردي عن الصليب، سواء المسلم أو المسيحي، في نهاية الأمر الصليب مجرد رمز لقوم أو ديانة، مثله مثل عَلَم أو راية الدولة، ولا يمكن أن يرمز بالتحديد لأي فكرة (مثل الثالوث) أو جزء محدد من أي عقيدة (مثل صلب المسيح) لأن أي رمز قابل لمختلف التأويل، ولأن أفكار الأمة الواحدة أحياناً تختلف بشدة من مكان إلى مكان. وإن وافقنا على أن بعض المسيحيين في أنحاء العالم لا يؤمنون بالثالوث مثلاً، فكيف إذن يرمز هؤلاء المسيحيون لأنفسهم وكيف نرمز لهم نحن؟ هل تريدون تحريم استخدام الصليب كرمز لقوم؟ إذن فلماذا لا نحرم إظهار العلم السويدي في مؤتمر تعاون أكاديمي مثلاً أو في أي حال من الأحوال—وهو اقتراح مضحك؟
قال بعض الإخوة المسلمون: ولكن الصليب معناه الاعتراف بصلب المسيح، وهذا لا نؤمن به نحن. وجزء من الرد على ذلك غطيته بالفعل، وهو الجزء الذي يوضح أن إظهار رمز ما، بعيداً عن الجسم والملابس وحدود بيت المسلم، في إطار أكاديمي أو إعلامي مثلاً، لا يمكن أن يكون معناه الاعتراف بأفكار أمة هذا الرمز. أما الجزء الآخر من التعليق فهو أننا كمسلمين نؤمن بما جاء في القرآن عن حادثة الصلب، ولكن ما يفصل بيننا وبين المسيحية من عقائد أهم بكثير من قضية الصلب. بمعنى أدق، النقاش حول وحدانية الله ونبوة محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام وألوهية المسيح أهم كثيراً من النقاش أو الاهتمام بما إذا صُلِب المسيح أم لا، فهذا ليس السبب الرئيسي الذي يخرج شخص من الملة مثلاً. وأنا أدرك أهمية الإيمان بكل ما جاء في القرآن بالتأكيد، ولكني أتحدث مثلاً عن شخص جاهل جداً...إن أردت أن تعرف ما إذا خرج من الملة أم لا، فبالتأكيد هناك أسئلة أهم بكثير من سؤال "هل صُلِب عيسى عليه السلام أم لا؟". إذن فإن ربط إظهار الصليب مع الهلال بالاعتراف بصلب المسيح هو مغالطة وتخمين، بل انعدام منطقية؛ فكما ذكرنا من قبل، ما هي علاقة إظهار راية ما، بالاعتراف بأفكار أمة الراية؟ وعلى الجانب الآخر، هذا الربط الغير منطقي هو أيضاً تشبث بقضايا ليست من أولويات الجدال—بالتي هي أحسن—مع أهل الكتاب وليس لها أي علاقة من الأصل بقضية وضع رمز الأمة المسيحية بجانب رمز الأمة الإسلامية. أي لماذا تركنا كل شيء وكل الأساسيات وتشبثنا بقضية الصلب؟! شيء عجيب.
وقال بعضهم: ولماذا نستخدم الصليب من الأصل؟ لماذا لا نضع ببساطة كلمة "أنا ضد الإرهاب" مثلاً؟ وهذا يكاد يكون التساؤل الوحيد العقلاني بعض الشيء وسط كل الجدل والاقتراحات والتساؤلات الأخرى. والتعليق على هذا لا يعتمد على علوم دينية، وإنما على علوم دنيوية مثل التسويق والدعاية والإعلان والإعلام وعلم الرموز وعلم النفس. والموضوع يطول شرحه، ولكن كمحاولة لتبسيط الرد أقول: الرموز لها تأثير أقوى بكثير من تأثير الكلمات، خاصة لأنها تتحدث مباشرة إلى قلب الناظر وتخاطب قلبه بلغته الشخصية وبمفهومه الشخصي. وهذا هو بالتحديد السبب الذي يجعل شخصاً ما ينظر إلى الصليب فيسمع رسائل في ذهنه تتعلق فقط بالثالوث أو بصلب المسيح، فيرفض الاقتراب من الرمز أو التعامل معه إن كان مسلماً؛ ولكن شخص آخر ينظر إلى الصليب فيسمع رسائل تتعلق بالأمة المسيحية نفسها، فلا يجد حرجاً في قلبه من الاقتراب من الرمز والتعامل معه بالبر والمعروف؛ وشخص ثالث ينظر إلى الصليب فيرى الأداة التي عذبت نبيه كما تقول معتقداته فيشعر بالألم، وآخر ينظر إلى الصليب فيرى الأداة التي طهرته وأنقذته كما تقول معتقداته فيشعر بالامتنان والحب، وهكذا. الرموز تتحدث إلى قلب كل مرء مباشرة، وبلغة هذا المرء الشخصية. وهذا هو ما يجعل تأثيرها قوياً وعاطفياً أحياناً. وبناءً عليه، فإنك عندما تضع رمزك كمسلم بجانب رمز جارك المسيحي، وفي نفس الوقت تتفهم وتتعامل بعقلانية واعتدال وعدل وحكمة مع رمزه، فإنك تؤثر في قلب جارك المسيحي كثيراً، لأن رمزه يعني له شيئاً مختلفاً تماماً عما يعنيه لك، وأنت تقول له إن هذا الرمز الذي يعني لك الكثير وتحبه وتتعلق به، هو بجانب رمزي...إني أتقبل وحدتنا بتقبل رمزك بجانب رمزي...انظر لرمزك الذي تحب، لقد وضعته بجانب رمزي...وهكذا، وكل هذه الرسائل لها من التأثير العاطفي الكثير، وتجعل جارك المسيحي يشعر بالأمان والامتنان لك. وإني لا أدعو هنا إلى إظهار رمز الصليب مع الهلال في كل الأوقات أو على ملابسنا أو في بيوتنا، وإنما في أوقات الشدة والحاجة الشديدة لكل تضامن وحب ورحمة، وأساساً على الصفحات الإعلامية وما شابه فقط. هذه بعض الأسباب التي تجعلني أنا شخصياً أستخدم الرمز أعلاه. وإني لا أقول أن هذا ضروري أو لازم، بل لكل مسلم حرية الاختيار في التعبير عن تضامنه، ولكني ذكرت بعض الأسباب التي جعلتني أنا شخصياً أقتنع بالحاجة إلى إظهار هذا الرمز في الوقت الحالي.
وتساءل آخرون: لماذا لا يستخدمون ونستخدم رمزاً آخر؟ لماذا الصليب بالتحديد؟ والإجابة لها عدة أوجه، ولكن أوْجُهها الرئيسية تاريخية. إن الرمز للأمة المسيحية بالصليب، على اختلاف أجناسهم وبلادهم ولغاتهم وكنائسهم وأفكارهم بل وعقائدهم، هو واقع تاريخي وواقع حالي. وكما ذكرت من قبل، يوجد عدة نظريات لنشأة الصليب كرمز، فلا يصح التشبث بنظرية محددة أو معنى أو مغزى محدد للصليب، خاصة إن لم تكن أنت مسيحي من الأصل وفي نفس الوقت دراستك ليست في تاريخ المسيحية مثلاً. فلماذا تصر على معنى أو مغزى محدد للصليب إن لم تكن مسيحياً من الأصل؟!
ويوجد فكرة محددة قد تساعد المسلم على تفهم الرأي القائل بأن اقتراح مثل استخدام رمز آخر لن يجدي، بل وقد يكون غير عادل أو تنقصه الحكمة، وهذه الفكرة هي تطبيق نفس الاقتراح على رمز الهلال. إن الهلال نفسه كرمز للإسلام هو أمر مستحدث، فقد بدأ فقط منذ سبعة قرون مع الدولة التركية العثمانية، أي بعد سبعة قرون من الهجرة ووفاة الرسول عليه الصلاة والسلام. وكان الغرض الأساسي من استخدام الهلال هو التمييز المرئي للمؤسسات والمباني الإسلامية من المؤسسات والمباني المسيحية، لأنهم في أحيان كثيرة تشابهوا جداً في المعمار والتصميم، فكانت الحاجة لاستخدام رمز يميز هذا المبنى عن ذاك. وبعض الغربيون الحاقدون يدَّعون أن الهلال رمز لإله قمري غير الرب الذي يعبده المسيحيون واليهود. فتعال لنتساءل: طالما أننا كمسلمين لا نعبد القمر ولا نعبد الهلال، فلماذا لا نغير الهلال ونستخدم رمزاً آخر؟ الكعبة مثلاً. ووقتها تجد نفسك في وضع شائك، لأننا نسجد في اتجاه الكعبة كقبلتنا، فإن استخدمناها كرمز، لأعطينا الحاقدين سبباً أقوى لاتهامنا بأننا نعبد إلهاً غير الله، مثل الكعبة نفسها—وهو ما يقوله بالفعل بعض الجاهلون منهم. إذن، فإن من أراد أن يجد عيباً أو مصيبة في أي رمز فمن السهل له أن يجد ما يشاء بل ويتلكك أيضاً، ولأنّ الرموز قابلة للتأويل بطرق مختلفة، فعلينا جميعاً ألا نعطي الأمور أكبر من قدرها، وعلينا أن نفهم ونتعامل مع كل الرموز بوسطية وحيادية وعدل وحكمة. فكما أننا لا نحب أن يدّعي أحد أن الهلال معناه الاعتراف بالقمر كإله أو أنّ معناه أن المسلمين يعبدون القمر والعياذ بالله، فيجب ألا نُصِرّ نحن أن الصليب معناه الاعتراف بثالوث أو صلب، خاصة وأن ليس كل المسيحيين في العالم يؤمنون بألوهية عيسى عليه السلام كما ذكرت. وكما أننا لا نؤمن أن الهلال يرمز للتوحيد أو للفِكْر السلفي أو لهجرة الرسول (ص) أو ما شابه، بل يرمز للأمة الإسلامية أو الإسلام عامة، فيجب أيضاً ألا نظن أن الصليب يرمز للثالوث أو لصلب المسيح أو ما شابه، بل يرمز إلى المسيحية أو أمتها عامة.
ومرة أخرى، أؤكد على وأذكر القارئ بما ناقشناه من فكرة أن إظهار رمز أو راية ما لا يمكن أن يعني الاعتراف بفِكْر الأمة التي ترمز لها الراية، إلا إذا وضع الشخص هذا الرمز على جسده كوشم مثلاً أو ارتداه في ملابسه أو وضعه في منزله.
والشكل أعلاه يُظْهِر الهلال، الذي يرمز إلى أمة الإسلام، وهو يحتضن الصليب ويحتويه، وهو يرمز إلى أقباط مصر. وكان هذا هو واقع الأمة الإسلامية في تاريخها: يتنعم تحت رايتها بالأمن والأمان المسلم وغير المسلم معاً، فتحتضن كل ثقافة وفكر معتدل برحابة صدر طالما لم يتم أي اعتداء أو تآمر. والاحتضان والاحتواء ليس معناه الموافقة أو التأييد للفكر أو التطبيع مع ديانة أو التطبع بطباع أهلها، وإنما هو السلام والرحمة، وقد بعث رسولنا رحمة للعالمين، ليس فقط للمسلمين. هل يظن بعضكم يا إخوة أن احتضان أي فكر أو ثقافة مختلفة طالما لم يحدث معاداة أو تآمر شيء مبالغ فيه مثلاً أو لا يجوز؟ يا إخوة إن الرسول عليه الصلاة والسلام جاءه فتى يطلب منه أن يسمح له بالزنا...تخيل يا أخي، الزنا! شخص يقول لك أنه يريد أن يزني، ويريدك أن تحلّل له الزنا! ماذا ستفعل أنت مع هذا الشخص؟ وفعلاً، الناس الجالسون حول الرسول (ص) صاحت بهذا الفتى. أتظن أن الاحتضان بصدر رحب شيء حرام في موقف مثل هذا؟ انظر ماذا فعل الرسول عليه الصلاة والسلام: جعل الشاب يقترب منه، وبدأ يسأله برفق ولين ما إذا كان يحبّه—أي الزنا—لأمه، أو يحبه لأخته، إلى آخر الحديث. كان هذا هو لين ورفق الرسول عليه الصلاة والسلام مع من طلب منه السماح له بالزنا، حتى وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على صدر الفتى وقال: "اللهم طهر قلبه واغفر ذنبه وحصن فرجه"، فلم يكن شيء أبغض إليه منه، أي حتى أن وقتها لم يكن شيء أبغض إلى ذاك الفتى من الزنا.
والرمز أعلاه أيضاً يظهر كلمة الحداد، وهي تشير إلى حُزْن ومواساة ومشاركة وجدانية لأحداث يناير 2011 في الإسكندرية. ويبدو أن كلمة حداد للأسف أيضاً يسيء فهمها الكثير من الناس، لضعف لغتهم العربية الفصحى مثلاً أو كالعادة لاعتمادهم على فهمهم الشخصي لمعظم الأشياء بدلاً من الاعتماد على الفهم الحيادي والعقلاني؛ أما الحداد فالمقصود منه هو الحزن والمواساة والمشاركة الوجدانية، وليس المقصود منه الصلاة على غير المسلم أو الترحّم عليه. كل أمة تصلي على موتاها وتترحم عليهم كما تشاء، وبالنسبة لأمة الإسلام فلا يجوز لها أن تصلي أو تترحّم على أموات من أمة أخرى، كما اتفق عليه العلماء؛ والحداد لا يعني الصلاة أو الترحّم، بل المواساة والتعزية والمشاركة الوجدانية والحزن على الأرواح التي ماتت بغير حق، أياً كانت ديانة من قُتِل، وقد مات مسلمون ومسيحيون في الانفجار الذي حدث بين الكنيسة والمسجد في الإسكندرية.
لقد أوصانا—كمسلمين—الرسول عليه الصلاة والسلام بالمصريين جميعاً خيراً، مسلمين وأقباط، وعندما أشار للمصريين في حديثه، أشار لهم بقبط مصر، وهي وإن كانت تعني المصريين في حديث الرسول، إلا أنها الكلمة المستخدمة اليوم للإشارة إلى مسيحيّ مصر، فقال الرسول (ص): "الله الله في قبط مصر؛ فإنكم ستظهرون عليهم، ويكونون لكم عدة وأعوانا في سبيل الله." الراوي: أم سلمة هند بنت أبي أمية؛ المحدث: الألباني؛ المصدر: السلسلة الصحيحة؛ الصفحة أو الرقم: 3113؛ خلاصة حكم المحدث: إسناده صحيح رجاله ثقات. وقد علقت في مقالتي السابقة بعنوان من مسّ الأقباط بسوء لا يمت لأي دين بصلة، بتفصيل أكثر على موضوع أن قبط مصر تشير إلى المصريين وليس إلى الأقباط، وقلت من ضمن التفاصيل الأخرى أنه حتى إن اتفقنا على هذا، فالتعاليم التي توصينا بالنصارى كلهم عديدة وميثاق عهد الرسول (ص) لكل النصارى يكفي.
ولكي لا يُقَال أنّي—بكل كلامي السابق—أعرّض الجاهل لأن يُفْتَتَن في دينه فإني أشهد بأن وضع الرمز أعلاه إو إظهاره في أي مكان في المنزل هو حرام على المسلم، وأن ارتدائه على الملابس أو الجسم بأي شكل من الأشكال هو أيضاً حرام على المسلم، أما ما أقوله بالتحديد فهو أن وضع الشعار أو إظهاره لفترة محدودة على المقالات الإعلامية والمدونات وصفحات فيسبوك وما شابه، لغرض الإعلام والتشجيع على الوحدة والترابط، لم أجد دليلاً شرعياً على تحريمه.
وإن هذا وقت تضامن وتراحم وحب، وليس وقت رموز واختلاف فكر بيننا وبينهم، خاصة طالما لم يبالغ المسلم أو جاء تضامنه على حساب دينه لا سمح الله. فعلينا أن نوالي ديننا وأمتنا، ونتبرأ من كل فِكْر لا يرضي الله، ولكن إظهار شعارنا أو رمزنا مع شعار جيراننا لا يمكن أن يكون معناه شرطاً أننا نعترف بفكرهم، بل إننا نعبر بطريقة مرئية عن التضامن والوحدة والتراحم بين أمتنا وأمتهم.
أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى وموسى عبدي الله ورسوليه، وأشهد أن محمداً عليه الصلاة والسلام أوصى بالنصارى كلهم خيراً وخصّ قبط أو أهل مصر بوصية زائدة في عدة أحاديث صحيحة، وأشهد أن كل من مسّ الأقباط والنصارى بسوء فقد عصى الله ورسوله. وإني أؤمن أن من آذى الأقباط ليس بمسلم، فحتى الراغب في الجهاد من المسلمين يمكنه أن يجد ما يكفيه من الجهاد في أفغانستان والعراق وفلسطين. بل إن من فعل هذه الجريمة لا يتبع أي ديانة على الإطلاق وهو خائن وعميل وعدو للشعوب العربية كلها وللأديان كلها. اللهم أرنا جميعاً الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه؛ اللهم خِرْ لنا، واختر لنا، ولا تَكِلْنا إلى اختيارنا. أي باطل فيما كتبت هو منّي ومن الشيطان، والحق من توفيق الله ورحمته وستره، والحمد لله.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق