قد يكون اللهُ كتبَ لي أن أكون من أبٍ مصريٍّ وأمٍ اسكندنافية حتى لا أتأثر بمرضِ القومية، سواءاً قوميةٍ مصريةٍ أو قوميةٍ أوروبيةٍ أو قوميةٍ عربية. معظمُ سنواتِ حياتي، ارتبطتُ عاطفياً بأماكن معينة وذكريات محددة في مصر، ولكني لم أشعر بحب زائد أو مبالغ فيه لمصر عن أي بلد مسلمة أخرى. بل إني دائماً كنت أشعر أن هذه الوطنية المتطرفة أو القومية ما هي إلا مرضاً في القلب ورجعيةً جاهليةً قَبَلِيَّة، شيء لا يطيب لي أبداً أن أدعه يدخل قلبي.
إني اليوم أؤمن أنه لا حاجة للأوطان عندما يكون الوطنُ ديناً؛ لا حاجة للأعلام عندما يكون الوطنُ فِكرة؛ لا حاجة للرايات عندما يكون الوطنُ شعباً...ويكون الشعبُ مسلماً لله. فالمسلم في أمريكا وفنلندا وإسبانيا وتركيا والجزائر ومصر وفلسطين والإمارات والسعودية وماليزيا وأستراليا ممثل لهذا الشعب، الشعب المسلم. المصريون شعب أغلبه مسلم، والسعوديون شعب يكاد يكون كله مسلم، وتركيا شعب أغلبه مسلم، وإلى آخره؛ ولكن، من هو ’الشعب المسلم‘؟ بالألف واللام. الشعب المسلم هو المسلمون في الأرض كلها. وهذا الشعب المسلم بديهياً له وطن، مثل أي شعب آخر. فما هو وطن الشعب المسلم؟ بناءاً على واقعنا اليوم، لن تستطيع أن ترسم حدوداً جغرافية لهذا الوطن أبداً، ولا يصح أصلاً رسمُ تلك الحدود. فالحقيقة تفرض نفسها: الوطن عندنا اليوم ليس أرضاً، بل دين وفكرة.
وأي بقعةٍ من الأرض يُذكر فيها اسمُ اللهِ وحدَهُ...وطني.
لا يهمني ما اسم الأرض التي ولدت بها؛ إن كنت مسلماً، فأنت أخي. ولا يهمني موقعُنا الجغرافي في الأرض؛ إن كنا مجتمعأً مسلماً نعيش بكرامة وحرية على بقعة من الأرض فنعمّرها ونذكر اسمَ اللهِ فيها ونطيعه، فهذه الأرضُ وطني.
ومن الوطن تأتي الهوية الثقافية. اليوم في مصر، تجد المعارض للإخوان المعتدل أو الصادق يعترف أن الإخوان ليسوا إرهابيين وليسوا منافقين أو أشراراً، ولكن في نفس الوقت، يعارضهم ويرفضهم—ويدرك أن كراهية الآخرين لهم—بسبب تغييرهم للهوية الثقافية لمصر! وأكرر، ما يغار عليه هذا المعارض هو الهوية الثقافية لمصر نفسها، كبلدٍ وكعادات وتقاليد وفنّ واهتمامات، بغض النظر عن رأي الإسلام في هذه العادات والتقاليد والفن. وهذا المعارض يبرر لنفسه إيمانياتِه وقناعاته بأن الإسلامَ دينُ يسر، وأنه لا داعي لتعقيد الأمور أو التشدد وإلى آخره. وأحياناً يكون ذلك المعارض مدركاً تماماً أنه لا يأخذ بالأيسر من الإسلام، وإنما في الحقيقة يأخذ ما يحلو له، ويترك الباقي؛ هو يدرك جيداً أنه لا يعارض التعقيد أو التشدد، بل يعارضُ شموليةَ الإسلامِ ويعارض بعض التعاليم الإسلامية التي لا تروق له ولم ينفتح لها قلبه بعد! هو يدرك هذا، ولكن لا يمكن أن يعترف بذلك أبداً أمامك. وكل هذا أعْتَبِرُهُ دليلاً آخراً على أن القوميةَ مرضٌ خطيرٌ يصيب القلب، لأن ارتباط الإنسانِ بأرضٍ ما أولاً وبعشيرة محددة أولاً وأخيراً يؤدي إلى انصراف القلب عن الحق، وميلِه إلى عاداتِ وتقاليدِ العشيرةِ قبل أي تعاليم أو عادات أخرى، إلى ما تَعَوَّدَ عليه في هذه الأرضِ قبل أي شيء آخر. وعندما يحدث هذا على حسابِ تعاليمِ وأوامرِ الله، وعلى حسابِ عبادِ الله الذين يعيشون في نفس هذه الأرض، فيا له من خسران مبين لذلك الإنسان.
أُشْهِدُ اللهَ أنه لا يَهُمُّنِي ما اسمَ الأرضِ التي ولدت بها؛ إن كنت مسلماً—مسلماً بحق ومؤمناً بشمولية الإسلام، فأنت أخي. ولا يهمني موقِعُنا الجغرافيُّ في الأرض؛ إن كنا مجتمعأً مسلماً نعيش بكرامة وحرية على بقعة من الأرض فنعمّرها ونذكر اسمَ اللهِ فيها ونطبق دينَهُ فيها، فهذه الأرضُ وطني. هذه هي هويتي الثقافية.
وأي بقعةٍ من الأرضِ يُذكرُ فيها اسمُ اللهِ وحدَهُ...وطني.
—ياسين ركه