الثلاثاء، مارس 6

مشكلة الفقر وبعض أبعادها النفسية

فرد فقير هو فرد لا يفهم الآتي، ومجتمع فقير هو مجتمع مليء بأفراد لا تفهم الآتي. فرد غني هو فرد يفهم الآتي ويعمل به، ومجتمع غني هو مجتمع مليء بأفراد تفهم الآتي وتعمل به.

ومن ظن أن بعض المجتمعات الملحدة أو الكافرة غنية بدون الآتي فهو أولاً: لم يفهم معنى الغنى وحقيقة الفقر، وثانياً: لم يعيش في هذه المجتمعات ولم يعرفها بعمق، ليرى ما تحت السطح فيها فيدرك حقيقتها. كم من جائع غني وسعيد—لا يتألم من قلة الطعام، وكم من متخم فقير وتعيس—لا يشبع مهما أكل، وكم من سطحيّ قليل الخبرة لا يفهم هذا.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقول ربكم: يا ابن آدم، تفرغ لعبادتي، أملأ قلبك غنى، وأملأ يديك رزقا؛ يا ابن آدم، لا تباعد مني، أملأ قلبك فقرا، وأملأ يديك شغلا."
الراوي: معقل بن يسار المزني | المحدث: الألباني | المصدر: صحيح الترغيب - الصفحة أو الرقم: 3165
خلاصة حكم المحدث: صحيح

والمقصود أن يفرغ العبد قلبه لعبادة الله. أما ما يؤدي إليه هذا من أفعال، تقوم بها الجوارح أو يقوم بها الجسم في استغلال الوقت، فهو يعتمد على ظروف كل فرد باختلافها وشخصية المرء وما يرتاح إليه قلبه، سواء أدى ذلك إلى التفرغ لقيام الليل أو التفرغ لعمل خيري في مسجد أو التفرغ لعمل مهني نيته تقوية الوطن المسلم وإعانة المسلمين على عبادة الله بسد احتياجاتهم الأساسية مثلاً—وكل هذا يأتي بعد أداء الفروض وإلا كان العمل كله فاسداً.

ولكن يجب أن يتذكر المرء أن الدليل على أن القلب متفرغ لعبادة الله—سواء في صلاة أو في وظيفة—هو تذكر الله طوال اليوم، والتركيز على الله طوال اليوم، لا على سمعة المرء أو على هموم الدنيا أو على الجوائز المنتظرة من المجهودات أو اعتراف الناس بجهدنا؛ وأي مشاكل أو عقبات في يوم المرء، أو نكران جميل من تجاه الناس، هي خير فرص لك كي تتأكد ما إذا كان قلبك بالفعل متفرغاً لعبادة الله، أم أنك تدعي هذا فقط أو تخدع نفسك به والحقيقة هي أنك تعمل للدنيا أولاً وأخيراً. لأن القلب المرتبط بالله دائماً يحمد الله على الخير والشر، ويقول كفى بالله وكيلاً ورباً عادلاً.

والدليل على أن المقصود هو أن يفرغ العبد قلبه لعبادة الله هو الحديث الآتي.

"من كانت الآخرة همه، جعل الله غناه في قلبه وجمع له شمله وأتته الدنيا وهي راغمة؛ ومن كانت الدنيا همه، جعل الله فقره بين عينيه وفرق عليه شمله ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له."
الراوي: أنس بن مالك | المحدث: الألباني | المصدر: صحيح الترمذي - الصفحة أو الرقم: 2465
خلاصة حكم المحدث: صحيح

اقرأ جمل الحديثين معاً عدة مرات لترى التوافق وتعي الفكرة؛ ركز على التوافق ما بين "تفرغ لعبادتي" و"الآخرة همه"، "أملأ قلبك غنى" و"جعل الله غناه في قلبه"، "أملأ يديك رزقاً" و"أتته الدنيا وهي راغمة"، وهكذا.

ارتباط القلب بالله وبعبادته وبالآخرة يؤدي حتماً إلى غنى القلب وغنى اليد أيضاً. ولكن عندما تقرأ هذا، قد يكون أول ما يجول بخاطرك مثلاً هو: "إذن فكي تغتني يدي، يجب أن أربط قلبي بالآخرة!"، وهذا هو المضحك في الأمر والدليل على أن كل هذا ليس بالسهولة التي قد يتخيلها البعض! لأنك في اللحظة التي فكرت فيها هكذا، أصبح هدفك هو النقود أو غنى اليد، وليس الآخرة. فنعم، الأمر ليس سهلاً ولا يأتي سوى بإخلاص النية والإصرار على تطهير القلب تماماً، حتى يصبح غنى المال والفقر عندك واحداً، وتصبح إنجازات الدنيا أو عدمها عندك واحداً، ويصبح كل همك الأساسي هو الآخرة بعد القيام بالفروض والمسئوليات. المرء عندما يتوق للانتهاء من مسئولياته وفروضه كي يتفرغ لعبادة الله بالطريقة التي يرتاح لها، يصبح وقتها القيام بمسئولياته نفسه عبادة تنفع آخرته، وتأتيه الدنيا وهي راغمة، ووقتها...قد يبتسم ولا يمد يده ليأخذ الدنيا، لأنها ستشغله عن عبادة الله!

—ياسين رُكَّه

~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~
كلام آخر عن الفقر من منظور خوف الفقر، لمعز مسعود في حلقة من حلقات الطريق الصح
http://www.youtube.com/watch?v=Z2I1ABACbZo


ليست هناك تعليقات: